ابتكرت الكثير من المنظمات والمؤسسات الدولية مجموعات متنوعة من المؤشرات الإحصائية لقياس العديد من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي تلقى في كل عام اهتماماً واسعاً من قبل التقارير الإعلامية والتغطيات الصحفية، للتعاطي مع التصنيفات والأرقام المعنية في دول العالم قاطبة.
وتُعد هذه المؤشرات ذات أهمية كبيرة بالنسبة للعالم العربي، لتقييم واقع هذه الدول في سياساتها المحلية، ومعرفة التغيرات وتوفير المعلومات حول العديد من الظواهر والأحداث، كما ولا تزال المؤشرات المختلفة تؤدي دوراً كبيراً في رسم السياسات وجلب الاستثمارات وتحقيق مظاهر التطور والتنمية المختلفة؛ ولذلك تبذل دول العالم جهوداً متضافرة لنيل مراتب متقدمة فيها.
في هذه المادة، نقوم باستعراض مجموعة مختارة من المؤشرات الدولية، حيث تشمل التنمية، والتنمية المستدامة، والمؤشرات الاجتماعية والسياسية والأمنية، والتي من شأنها أن توفر منظوراً أكثر وضوحاً عن المنطقة العربية وأن تساعد في التخطيط ووضع الاستراتيجيات المناسبة.
التنمية والتنافسية
يتيمز العالم بتغيرات ديناميكية مهمة على صعيد البيئات الاجتماعية والاقتصادية، ويمكن لهذه التغيرات أن تساهم في توفير فرص أفضل للناس، وتحقيق التوازن بين الفرد والموارد المتاحة في دولة ما، وبهذا الصدد تم ابتكار مؤشر التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة، والذي يصنف الدول بحسب مستوى تطورها الاجتماعي والاقتصادي، ويأخذ بثلاثة أبعاد رئيسية للتصنيف؛ وهي: حصة الفرد من الناتج القومي الإجمالي، ومتوسط العمر المتوقع، والمعدل المرجح لمدة الدراسة. ويُعد هذا المؤشر من أفضل أدوات القياس التي تتيح تتبع مستوى التنمية حول العالم، ومنه يمكننا تتبع مستوى الإنجاز العربي في الأبعاد الرئيسية للتنمية، ومتابعة الشعوب والبلدان العربية ومقارنتها ببعضها البعض، وبالعالم ككل.
في البداية، تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن المنطقة العربية تشهد معدلات تنمية بشرية مرتفعة، فوفقاً لدليل التنمية البشرية لعام 2019، تتراوح مجموعات التنمية البشرية بين مرتفعة جداً (0,892)، ومرتفعة (0,759)، ومتوسطة (0.634)، ومنخفضة (0.507). وفي المنطقة العربية بلغ متوسط التنمية (0.703)، وبالرغم من موقعها ضمن المجموعات المرتفعة؛ تبقى أقل منها عند أقاليم أخرى، مثل: أمريكا اللاتينية، وآسيا الوسطى، وشرق آسيا، والمحيط الهادئ.
عند التعمق أكثر في النتائج، نلاحظ أن هناك اختلافات كبيرة جداً بين الدول العربية، وتتراوح من أعلى قيمة لها في الإمارات التي احتلت في عام 2019 المرتبة الـ 35 عالمياً من بين 189 دولة شملها التقرير، إلى أدنى قيمة لها عند اليمن والتي جاءت في الترتيب الـ 177 عالمياً. ويوضح الرسم أدناه الدول العربية ضمن مستويات التنمية الأربعة.
لقد توزعت الدول العربية بين فئات التنمية الأربع (مرتفعة جداً، مرتفعة، متوسطة، منخفظة)، إذ تندرج الدول الخليجية كافة تحت فئة تنمية بشرية مرتفعة جداً وفقاً للمؤشر، في حين تمتلك كل من: الجزائر، وتونس، ولبنان، والأردن، وليبيا، ومصر تنمية بشرية مرتفعة، وتقع فلسطين، والعراق، والمغرب ضمن فئة التنمية المتوسطة، بينما تشهد جزر القمر، وسوريا، وموريتانيا، والسودان، وجيبوتي، واليمن تنمية بشرية منخفضة، أما الصومال فقد كان خارج التقرير للعام 2019.
ومع ذلك، قد لا يوضح ذلك المؤشر الكثير من الجوانب المتعلقة بالتنمية والنمو المستدام للدول العربية، حيث تشهد كل دولة ظواهرها الديمغرافية والسياسية والاجتماعية والقانونية الخاصة بها والمختلفة عن الأخرى، ناهيك عن أن هناك تقديرات خاصة لكل دولة بمعزل عن النواتج المحلية الإجمالية والقوى الاقتصادية الأوسع نطاقاً، ولذلك فإن الحديث عن التنمية البشرية قد لا يكون كافياً لتبيان حالة الاقتصادات العربية التي تعاني الكثير منها من ضغوطات جمّة.
ولذلك ثَمَّة حاجة لإيجاد توازن بين التنمية البشرية والنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة، ففي حين تسعى التنمية البشرية لتبيان حالة الفرد العربي، فإن النمو والتنمية يوضحان الموارد المتاحة والتي تضمن في نهاية المطاف رفاهية هذا الفرد ومستوى معيشته. وهناك العديد من المؤشرات الدولية المركّبة التي دعمت هذه الصلة، وأهمها تقرير التنافسية العالمي الذي يصدر عن المنتدى الاقتصادي الدولي، ويقارن بين 181 دولة.
يوضح التقرير العلاقة الطردية بين التنمية البشرية والنمو الاقتصادي، حيث إن الدول الأعلى ترتيباً في مؤشر التنمية البشرية حلَّت كذلك في تقرير التنافسية للعام 2019، فالدول الخليجية تتقدم في صدارة الدول العربية، إذ كانت الإمارات في المرتبة الأولى عربياً وفي المرتبة الـ (25) عالمياً، تليها قطر (29)، والمملكة العربية السعودية (36)، والبحرين (45)، ثم الكويت (46)، وسلطنة عمان (53)، فيما بقيت معظم الدول العربية الأخرى مثل: الأردن، ولبنان، وتونس، والمغرب، ومصر، في المراتب الواقعة ما بين (70-100) عالمياً، بينما حلّت اليمن في الترتيب قبل الأخير (140)، فيما استُبعدت سوريا والصومال من التقرير.
إن قراءة هذه النتائج تُظهر أن الدول الخليجية تتقدم على الدول العربية الأخرى، ويبدو أن النفط عامل أساسي في تفسير هذا التقدم، وقد تكمن صحة هذه الجزئية في أن الدول التي تمتلك موارد هائلة من الطاقة تُعتبر الأقدر على تحقيق أهدافها التنموية من خلال استغلال العائدات المالية في تنفيذ خطط إنمائية ضخمة، ومع ذلك فثمّة مسببات أخرى سنأتي على ذكرها لاحقاً.
السلم والأمن
يتضح مما سبق أن المنطقة العربية هي من أكثر مناطق العالم تفاوتاً، حيث إن الفارق بين الدول الخليجية والدول العربية الأخرى كبير، مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه الفجوة هي في اتساع مستمر، فالضغوطات على الاقتصادات العربية في تزايد، والكثير منها غير قادر على مجاراة النمو السكاني ومتطلبات ذلك فيما يتعلق بالبنى التحتية ومظاهر التنمية الأخرى.
علاوة على ذلك، تظهر في المؤشرات آثار النزاعات التي تشهدها العديد من الدول العربية بشكل واضح، خاصة عند مقارنة معدلات التنمية البشرية لعامي 2011 و2019 لدول شهدت صراعات؛ كما يبين الجدول أدناه:
ولا يخفى على أحد أن هذه الدول عانت سلطاتها مؤخراً فيما يتعلق بإدارة شؤونها الداخلية، أو حتى في بسط سيطرتها المركزية على كامل جغرافيتها، ناهيك عن الصراع بين طرفين على السلطة، ولذلك فإن الكثير منها باتت توصف مؤخراً باعتبارها دولاً هشة، وهناك تقرير بهذا الخصوص تُصدره مؤسسة صندوق السلام سنوياً؛ يسمى مؤشر الدول الهشة، ويشمل 187 دولة.
ووفقاً للمؤشر لعام 2020، فإن الدول الهشة هي تلك التي لديها قدرة محدودة في إدارة وظائفها، أي أن السلطات في مثل هذه الدول غير قادرة على تقديم الخدمات من خلال مؤسساتها على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ولتبيان حال العالم العربي في المؤشر، يمكن القول إن هناك أربع دول عربية في قائمة الدول العشر الأكثر هشاشة، حيث حلّت السودان ثامناً، وسوريا رابعاً، والصومال ثانياً، واليمن في المرتبة الأولى عالمياً، في حين جاءت ليبيا في المرتبة الـ 20، والعراق في المرتبة الـ 17. ورغم اختلاف الظروف في الدول العربية آنفة الذكر، إلا أنها تشترك في بعض العوائق المشتركة وهي انعدام الأمن وتفشي ظاهرة الإرهاب.
وبهذا الصدد فغالباً ما يُسلَّط الضوء على المنطقة العربية باعتبارها أكثر المناطق في العالم التي تعاني من الإرهاب. وبالرغم من الجهود الحثيثة لمكافحته وللحد من تأثيراته، إلا أنه يبقى الظاهرة الأشد خطورة على الإطلاق، وقد ساهم في وضع العديد من الدول العربية في قائمة الدول الهشة ومنعدمة الأمن.
وفي هذا السياق، يبدو أن هناك تحسناً ملحوظاً في مؤشر الإرهاب العالمي للعام 2020، إذ سجلت الوفيات المرتبطة بالإرهاب انخفاضاً كبيراً في المنطقة العربية عنه في عامي 2018-2019، ففي العراق بلغت نسبة هذا الانخفاض 46% خلال عام واحد، وهي المرة الأولى التي يسجل فيها العراق أقل من ألف حالة وفاة مرتبطة بالإرهاب منذ العام 2003، وفي سوريا انخفضت الوفيات الناجمة عن الإرهاب بنحو 401 وفاة، وفي ليبيا انخفضت الوفيات بواقع 148 وفاة فقط، وكذلك الأمر بـ 77 وفاة في الصومال، بينما ارتفعت الوفيات المرتبطة بالإرهاب في اليمن. وبشكل عام، سجلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحسناً ملحوظاً على مؤشر الإرهاب العالمي. ومع ذلك، فلا تزال هناك أربع دول عربية تشكل 20% من الوفيات العالمية المرتبطة بالإرهاب، ناهيك عن أن هناك أربع دول عربية في قائمة الدول العشر الأكثر تأثراً بالإرهاب كما يُظهر الجدول التالي:
وفي حين أن الإرهاب يُعد جزءاً لا يمكن نفيه من مظاهر العنف في هذه الدول إلا أنها تشهد أيضاً عنفاً ذا أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية؛ حيث تفتقد دول مثل: اليمن، والعراق، وسوريا، وليبيا لمظاهر الأمن والاستقرار بسبب الصراعات المسلحة والعنيفة على أراضيها.
وبهذا الصدد، يقوم مؤشر السلام العالمي الصادر عن مركز الاقتصاد والسلام بتصنيف دول العالم من خلال ثلاثة معايير رئيسية؛ هي: مستوى الأمن والأمان في المجتمع، ومستوى الصراع المحلي والعالمي، ودرجة التزود بالقوى العسكرية. وفي أحدث تقاريره للعام 2020؛ كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أقل المناطق سلماً في العالم.
في حين تأتي دول مثل قطر، والكويت، والإمارات العربية المتحدة ضمن قائمة أفضل 50 دولة مسالمة؛ فقد تراجعت المملكة العربية السعودية على ما يبدو نتيجة لهجمات الحوثيين المتكررة على أراضيها، ولا تزال سوريا ثاني أقل الدول سلاماً على مستوى العالم حيث إن الملايين من السوريين إما نازحين أو لاجئين، ويأتي العراق بعدها إذ أنه أقل البلدان سلاماً في المنطقة، والثالث على مستوى العالم، حيث شهدت البلاد منذ أكتوبر 2019، ما يقارب من 700 قتيل وآلاف الجرحى، ثم يأتي اليمن في المرتبة الـ 159، وليبيا في المرتبة الـ 157، والسودان في المرتبة الـ 153.
بين المخاطر والرخاء
في حين أن الرخاء يُعنى بالتنمية والاستدامة في الجوانب الصحية والتعليمية والأمنية والاقتصادية والسياسية؛ فإن نظير ذلك هو المخاطر، والتي ترتبط أساساً بالمخاطر السياسية والاجتماعية والمؤشرات الاقتصادية الكلية مثل الدَيْن العام والأداء المؤسسي ومؤشرات الدخل وغيرها.
وبين الجانبين، فإن هناك قاعدة عامة مفادها: كلما كانت المخاطر التي تواجهها الدول أقل، وكلما كانت أكثر قوة واستقراراً، فإن ذلك يجعلها مؤهلة بشكل أكبر للتنمية والاستدامة كونها أكثر قدرة على تحقيق الفائدة من مشاريعها طويلة الأمد، وهذا يعيدنا إلى النقطة الأولى من هذا التقرير؛ حيث جاءت الدول الخليجية متقدمة على غيرها من الدول العربية في مؤشرات التنمية البشرية والتنافسية، وبمعنى آخر تقدمت على مستوى الفرد في التعليم والدخل والصحة، وعلى مستوى البنى التحتية والهياكل المؤسسية التي تخدم هؤلاء الأفراد، وبالتالي فمن البديهي أن تكون الشعوب الخليجية هي الأكثر رفاهية ورخاءً. ووفقاً لمؤشر الرخاء العالمي للعام 2020، حلَّت الإمارات في المرتبة الأولى عربياً، تليها قطر، ومن ثم البحرين، والكويت، وسلطنة عُمان، والمملكة العربية السعودية، على التوالي.
ومن جهة أخرى، فبالرغم من الظروف الاستثنائية التي شهدتها المنطقة العربية في العقد السابق، إلا أن الدول الخليجية حافظت على الاستقرار والأمن والسلم الداخلي، وكان ذلك واضحاً في مؤشر السلام العالمي 2020، حيث حلّت هذه الدول في قائمة أفضل عشر دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولذلك فمن المنطقي أن يتم عكس هذا الاستقرار على النمو الاقتصادي وزيادة الاستثمارات في البنى التحتية وغيرها. وليس ذلك فحسب، فهناك أحد أهم المؤشرات التي يعتمد عليها الكثير من المستثمرين من أجل تحديد المخاطر المرتبطة بالاستثمار في بلد ما؛ وهو مؤشر المخاطر العالمي؛ ففي هذا المؤشر لعام 2019، احتلت الدول الخليجية المراتب الأولى في قائمة الدول الأقل مخاطر بالنسبة لبقية الدول العربية.
ووفقاً للمؤشر الذي تصدره مؤسسة "يوروموني" لتقييم المخاطر، فقد جاءت كل من: سوريا، وموريتانيا، والسودان، واليمن في المراتب الأخيرة في قائمة الدول العربية، ويوضح ذلك مدى الارتباط بين ضرورة تحقيق الأمن والسلم لهذه المجتمعات، وبين قدرتها على تحقيق أسس وعوامل التنمية والاستدامة.
وبناء على ما سبق؛ يبدو واضحاً أن الفروقات كثيرة بين الدول العربية، فهناك تفوق واضح بالنسبة للدول الخليجية على الدول العربية الأخرى، وهذا يُعزى إلى زيادة الأمن والاستقرار فيها والذي بدوره يزيد من فرصها في النمو الاقتصادي وجلب الاستثمارات.
ومع ذلك، فإن هناك فجوة عميقة في العالم العربي، وهي ذات تأثير كبير ليس على الصعيد الداخلي فقط، بل على الصعيد العالمي أيضاً، فهذه الفجوة تجعل من الصعب تطبيق مساعي الوحدة والتكامل العربي على غرار الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن أنها تُضعف الدور المناط بجامعة الدول العربية والمنظمات العربية الأخرى، وتجعل العلاقات الدولية العربية تميل نحو الفردية دون تبني منظور عربي واحد؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تُوسع هذه الفجوة من الظواهر السلبية المنتشرة في الدول العربية كما في ظاهرة الإرهاب، حيث انتقل تأثير الأحداث في سوريا والعراق بشكل عام إلى خارج حدودهما، إضافة إلى أزمات النزوح واللجوء وزيادة التكاليف الأمنية وفقدان المنافع من التجارة الثنائية وغيرها التي أثّرت بشكل كبير أيضاً على بعض الدول.
وفي غضون ذلك، ثمّة حاجة كبيرة لتحقيق تعاون عربي أوسع خلال مساعي المنطقة للخروج من دائرة الصراعات والعنف إلى مزيد من الاستقرار والسلام، وبالرغم من أن المؤشرات تُظهر أن المنطقة العربية تشهد مستويات مقبولة من التنمية والتنافسية، إلا أن هناك نصراً ينبغي أن يتم تحقيقه على ظاهرة الإرهاب، والسعي إلى إرساء السلم والاستقرار في المنطقة التي تعج بالكثير من التحديات على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: