يقدّس الإنسان ما يرى فيه خلاصه، هذه حقيقة أثبتها التاريخ، تنطبق أيضاً على الجماعات التي تعمل – بوعي أو دون وعي – على توسيع هالة التقديس، وإضفاء سمات على “المخلّص” قد لا تتوافر فيه، بانيةً أحلامها على وهم لا تلبث أن تستيقظ منه في لحظة ما، فتكفِرُ به، وتحمله وزر خيباتها ونكساتها، متناسية أنها هي من بنت يوماً “سُلّم الوهم” هذا وعلّقت عليه كبرى آمالها، وتهاوى بها بعد حين، وأنها لو منحته قدرَه الصحيح لكان “سلم نجاة”، بل وركيزةً تزداد رسوخاً على مرِّ الزمن. تنطبق هذه الصورة إلى حد بعيد على “القومية العربية” التي كانت شعار مرحلة حساسة ومصيرية من تاريخنا الحديث كأمة.
لم يَرد مصطلح “القومية” على نطاق واسع قبل نهاية القرن التاسع عشر، ولم تكن قبل ذلك عاملاً مؤثراً في السلوك السياسي، بل كانت أقرب إلى “التخيل الاجتماعي الذي صار له أدوات واقعية” كما يصفها المؤرخ الإنجليزي “بيندكت أندرسون”، ويمكن القول إنَّ هذا المصطلح قد تبلور بشكله الأولي بداية في الثورتين الأميركية والفرنسية.
لكن، لم تُغرِ نتائج هاتين الثورتين العربَ إلا بعد نحو قرن من الزمن، أي أواخر القرن التاسع عشر، حيث بدت القومية كما لو أنها تعيد إحياء أواصر الرابط العروبي فيما بينهم، ومحاولة نسج مستقبل بلادهم من خيوطه المتينة، فما الذي حصل؟ ولماذا اهترأت هذه الخيوط وتقطّع الكثير منها في الشرق الأوسط؟ إن الشرذمة والتفرقة والتطرف الذي نعيشه، وفي زمنِ تصاعدِ الولاءات الضيقة والارتهان إلى الخارج، وما ينجم عنها من خراب نحصد نحن العرب ثماره منذ عقود.
خلال العشريات الأولى من القرن الماضي وما تلاها، كان للفظ “القومية العربية” ثقله ووقعه الكفيل بدغدغة مشاعر جماهير تمتد من المحيط إلى الخليج، كأنها روحٌ مشتركة تجمعهم، أو الروح المطلق بلغة الفيلسوف الألماني هيغل، روحٌ حلّت في جسد مكلوم رزح تحت عقود طويلة من الاستبداد والاحتلال.
بدأت الحركة القومية العربية تتبلور أول الأمر في بلاد الشام على يد أدباء مثل ناصيف اليازجي وبطرس البستاني اللَذين اعتمدا على اللغة العربية لإنعاش الروح القومية وبعثها، فتأسست عدة جمعيات ذات نزعة قومية صريحة، كان أهمها الجمعية العلمية السورية (1857)، وجمعية بيروت السرية (1875) والتي دعت إلى إقامة دولة مستقلة موحدة في سوريا ولبنان على أسس قومية، وتبعها جمعية “عصبة الوطن العربي” التي أسسها نجيب عازوري في باريس (1904)، ثم جاء المفكر عبدالرحمن الكواكبي ليحمل راية الدعوة القومية ويطالب بعودة الخلافة إلى يد العرب الذين يشكلون قلب الإسلام.
أما أهم الجمعيات ذات التوّجه العروبي فقد كانت “العربية الفتاة” التي تأسست في باريس (1911)، ولعبت دوراً أساسياً في وضع البرنامج السياسي للاستقلال العربي، حين التقى أنصارها بالأمير فيصل بن الحسين واتفقوا معه على إقامة دولة عربية مستقلة في العراق والحجاز، وطرحوا علماً عربياً يتكون من أربعة ألوان مقتبسة من بيت شعر قاله صفي الدين الحلي:
بيض صنائعنا، سود وقائعنا
خضر مرابعنا، حمر مواضينا
حرص الحصري من خلال المناصب التي تقلّدها كوزير للتعليم ثم وزير المعارف في المملكة العراقية على نشر القومية في صفوف السلطة، وكله إيمان بأنه يجترح الحل النهائي لمشاكل العرب، دون أن يخطر في باله أن أطرافاً ستستثمر أفكاره في غير مكانها وتحولها إلى ما وصفه البروفيسور عدي الهواري في كتابه “القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي” بـ”فلسفة سياسية مبسطة يمكن اختزالها إلى مذهب أخلاقي لا يعرف شيئاً عن الأسس الثقافية للحداثة أو التعقيد الاجتماعي للمجتمعات العربية وتناقضاتها”.
تسرّبت أفكار الحُصري إلى أستاذ الفلسفة السوري زكي الأرسوزي، الذي وظف الأيديولوجيا القومية في الدعوة إلى تأسيس حزب “يبعث الأمة العربية لتؤدي رسالتها إلى العالم”، وتولى كلٌّ من ميشيل عفلق وصلاح بيطار المهمة، فتأسس حزب البعث في سورية عام 1947 وفي العراق عام 1953، وقد مثّل وصول هذين التنظيمين إلى السلطة بداية استخدام القومية العربية بعيداً عن الأهداف الوردية بتحقيق الوحدة، شعار القوميين الطوباوي.
أما شكل الأزمة الأكثر وضوحاً فقد ظهر في مصر، حين تبنى “تنظيم الضباط الأحرار” قومية متطرفة، عمد جمال عبدالناصر إلى استثمارها والاتكاء على قيمتها لدى الشعوب العربية، لإطلاق مشروعه الخاص بلبوس عروبي، جاعلاً الشعوب العربية تسير خلفه، حالمة بالتحديث والوحدة، وبتحرير فلسطين، وهي القضية العربية التي كثيراً ما جعلها قادة عرب شماعة يعلقون عليها أخطاءهم الكارثية ومصادرتهم للرأي العام في بلادهم، وإخفاقاتهم الاقتصادية المتكررة، وفساد حكوماتهم وهدر موارد بلادهم بحجة التسلح في مواجهة “العدو”، مع تجاهل الأوضاع المتردية لشعوبهم الداخلية.
ولم يكن التوجه القومي الذي عرفته الأنظمة في الجزائر أو ليبيا (معمر القذافي) أو السودان (جعفر النميري)، بأحسن حالاً، فقد كانت جميعها من الأنظمة التي ركبت الموجة ، أو استغلتها بعد حين لمصالحها الفردية.
لم تحقق الأحزاب القومية أياً من شعارات القومية العربية، بل صار الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، هو الهدف النهائي والتطلع الأبعد، وسقط مشروع النهضة العربية سقوطاً مدوياً دفع بالكثير من العرب إلى النكوص نحو دوامة الروابط اللاوطنية؛ كالعشيرة والقبيلة والمذهب، بعد أن فشلت في تحقيق الوحدة التي نشدتها، ووجدت نفسها تعيش في دول فاشلة – أحزابها السياسية في أفضل الأحوال مرآة للسلطة – ويتفشى فيها الاستبداد والركود والصراعات البينية.
وهكذا تحولت راية ما يسمى بالقومية في ظل نظام عربي قمعي إلى فزاعة أُفرغت من مضمونها ومعناها الإنساني، بل صارت عدوة الحرية والسلام، وتحولت إلى عصا بيد الأنظمة التي لم تستطع أن تقدم لشعوبها سوى الشعارات الرنانة والوعود التي لا تنتهي.
لقد كان ذريعاً فشل الأحزاب والتيارات التي تبنّت الفكر العروبي في صنع قومية ذات طابع إنساني مرادف للحرية مشابه لنظيرتها الفرنسية وتؤكد على الحقوق الفردية ووضع المجتمع البشري فوق كل الانقسامات ، فتحولت القومية العربية إلى خطاب ممجوج لا تملّ أحزابها السياسية من ترديده على مسامع أنصارها ، وذلك حين وضعت شعار الوحدة الكاملة بين الدول العربية شرطاً لبناء بلدانها، والسير بها في طريق التنمية والتطوير.
وهنا يتحتم علينا الاعتراف – إنصافاً – بأن إخفاقاتنا كعرب ليست صنيعة القومية التي تجمعنا، فالقومية أساساً حتى لدى بيندكت هي خيال إيجابي يشكلّ الانتماء ويبني المعنى، وقد تلازمت مع فكرة الدولة الحديثة في الغرب التي ربطت الحضارة بالوطنية – القومية. وهي رابطة ثقافية روحية قوامها اللغة والثقافة والتاريخ والمصير الواحد، قبل أن تكون رابطة سياسية تفترض انضواء الشعوب العربية تحت حكم أو نظام سياسي واحد، ولا تنتهي أو تنتفي بعدم تحقق هذا الشرط الصعب، لكنها يمكن أن تكون قالباً تنصهر فيه جميع المكونات في مزيج لا يبتلع واحده الآخر.
تحملت القومية العربية، دون ذنب، وزر أخطاء الأحزاب والقيادات العربية التي انتسبت لها، فبقيت صور هؤلاء لامعة، في حين شُوِّهت هذه الرابطة الإنسانية وتعرضت حتى للتكفير، حين حاول البعض إظهارها وكأنها تتعارض مع الإسلام وتناصبه العداء. إن معاداة القومية العربية، أو إظهارها كشيطان يتسبب بجميع مصائبنا، ليس إلا محاولة للهروب من تحملّ المسؤولية، هذا الهروب الذي نحن أحوج ما نكون إلى الابتعاد عنه، وعلينا أن نميز جيداً بين القومية كفكرة أو نظرية وبين أدلجة القومية التي ظهرت في سلوك وسياسات الأحزاب والتيارات العربية التي تسلمت مقاليد الحكم (عبر الانقلابات) لفترات طويلة بعد استقلال بلدانها، هذه الأدلجة التي لم تؤمن يوماً بالليبرالية أو إقامة مجتمع مدني، لكنها مكنت الأنظمة من ممارسة الدكتاتورية (بمباركة وصمت الشعوب الحالمة).
يبدو بأن معظم بلداننا العربية عرفت بعد استقلالها أنظمة حملت “ميلاً فطرياً” لتطويع جميع المفاهيم خدمة لمصالحها الضيقة، وحوّلت كل قضايانا النبيلة إلى مطية لها للبقاء والاستئثار بالحكم سنوات طويلة، لكن هل يعني ذلك أننا لم نعد قادرين على إعادة توجيه البوصلة، وإزالة الشوائب التي تغطي الوجه الجميل لقوميتنا أسوة بجميع شعوب العالم؟
يتطلب الأمر جرأة وشجاعة في التجديد وعزماً مشتركاً على كسر الولاءات الأضيق، على اعتبار أن القومية عموماً تشكلّ المعنى للإنسان الحديث، ، ونحن كعرب تحمل قوميتنا من المقومات ما لم يتوفر لقوميات أخرى ناجحة ومثمرة، نستطيع من خلالها توليد قوى جديدة تضاف إلى جهودنا في بناء بلداننا كل على حدة. إنَّ عروبتنا جزء أساسي في وجودنا، وركن ركين من هويتنا لا نرضى أبداً أن نتخلى عنه، لكننا نريدها قومية جامعة تقوم على الاختيار الحر لإنسان واع مسؤول، بمنأى عن كل أشكال الشعبوية والانغلاق والتقوقع، تهدف إلى بناء السلام في منطقتنا والانتقال بها إلى ضفة الازدهار والحداثة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: