شهدت عمّان والقاهرة وبغداد تحركات دبلوماسية بينية في الآونة الأخيرة، سواء على صعيد لقاءات القمم أو لقاءات الوفود السياسية والتقنية التي تجتمع لبحث التنفيذ الفعلي لما تم الاتفاق عليه رسمياً من مشاريع في ضوء التوجه لبناء شراكة رائدة، تهدف إلى إنشاء مسار تنموي جديد في المنطقة.
اللافت في هذه التحركات توقيتها الذي يأتي في سياق تُعاد فيه "هندسة" المنطقة بعد وصول النزاعات والتوترات إلى ذروتها، وإنهاك الدول الإقليمية الرئيسية المنخرطة في الاضطرابات بفعل الكلف العالية التي تتكبدها هذا من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة لرغبة هذه الدول الثلاث في توجيه قدراتها لاحتواء التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا، وتوظيف الموارد المتاحة في خدمة المصالح المشتركة.
وما يدفع أيضاً باتجاه هندسة جديدة للمنطقة هو قدوم إدارة أمريكية ديمقراطية جديدة إلى البيت الأبيض ترى أن الإدارة الجمهورية السابقة أحدثت "فوضى" يجب أن يُعاد ترتيبها، ما قد يعني أن جهداً أمريكياً سينصب في المرحلة القادمة على خفض التوترات، رغبةً من إدارة بايدن في تحقيق مكاسب خارجية ستزيد من شرعيتها السياسة "المعنوية" في الداخل الأمريكي.
وربما ستكتسب العاصمة الأردنية مزيداً من الزخم الدبلوماسي، تقديراً من الإدارة الأمريكية لدور الأردن في إرساء الاستقرار في المنطقة، فلم يكن مستغرباً مبادرة الرئيس المنتخب – آنذاك – جو بايدن إلى الاتصال مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في نوفمبر 2020 مُعرباً عن "تصميمه الشخصي على تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين" وهي الشراكة التي تقوم - في جزء منها - على تنمية العلاقات الإيجابية في المنطقة.
وهنا قد تؤدي القيادة الأردنية دوراً مهماً في إزالة العقبات التي قد تطرأ على علاقات واشنطن مع بغداد وبصورة ما مع القاهرة، لا سيما وأن معظم أعضاء الإدارة الأمريكية لا يخفون استياءهم من المزاعم حول ملف الحريات وحقوق الإنسان في مصر، ويطالبون بإدخال إصلاحات جذرية في بنية النظام الحالي، الذي وصل إلى الحكم بعد احتجاجات 30 يونيو 2013، والذي يتوقع المحللون أنه لا تربطه علاقات متقدمة مع الديمقراطيين منذ عهد الرئيس الأسبق، باراك أوباما.
وعليه، قد تؤدي التغيرات في الإدارة الأمريكية إلى تعميق العلاقات في محور "عمّان – القاهرة – بغداد"، ولا يعني ذلك أن هذه التركيبة نشأت كاستجابة للتغيرات الراهنة في البيئتين الإقليمية والدولية وحسب، فمنذ عدة سنوات واللقاءات الرسمية تتوالى في هذه الصيغة الثلاثية أبرزها القمم الرئاسية الثلاث التي شاركت فيها قيادات البلدان الثلاثة، وكان آخرها الاجتماع الذي جرى في عمّان في أغسطس 2020 والذي انبثق عنه استحداث "سكرتاريا تنفيذية" يكون مقرها بالتناوب سنوياً في إحدى الدول الثلاث، وهو ما يعكس وجود إرادة سياسية جادة لترجمة العلاقات الاستراتيجية على أرض الواقع عبر مأسسة آليات التنسيق الثلاثية من أجل الشروع في مناقشة التفاصيل الفنية التقنية بعيداً عن تبدلات الحكومات والمواقف السياسية.
وتزخر كل دولة بإمكانيات ضخمة تميزها عن الدولتين الأُخريتين، ويمكن لتبادل مدروس لهذه الإمكانيات بين هذه الدول أن يعاظم من الفرص المحتملة وأن ينعكس إيجاباً على واقع مواطنيها.
فمصر تمثل كتلة سكانية ضخمة قادرة على رفد رأس المال بالعمالة الحرفية، ورغم انهماك الدولة المصرية بالحرب على الإرهاب إلا أنها استطاعت التأسيسَ لمشاريع كبيرة في البنى التحتية، كتوسعة قناة السويس وبناء شبكة طرق حيوية زادت من سهولة تنقل الأفراد والبضائع. ويقدم معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي المصري مؤشراً دقيقاً على التنمية الاقتصادية الحاصلة، إذ بلغت نسبة هذا النمو عامي 2018 و2019 بحسب أرقام البنك الدولي 5.3% و5.6% على الترتيب.
أما العراق فهي دولة نفطية قادرة على توفير غطاء مالي للمشاريع التي تنتظر الاستقرار الأمني والسياسي. في حين يعد الأردن دولة ذات موقع جيوسياسي يربط ما بين مصر والعراق ويمكن لقيادته توفير الدعم السياسي، إقليمياً ودولياً، لهذه الشراكة الثلاثية كونها دولة اعتدال عربي وترتكز سياستها الخارجية على مبادئ عدم التدخل في الشؤون السيادية والسعي نحو حل الأزمات بمنطق توافقي بعيداً عن الإقصاء وبما يحقق نوعاً من التوازن الإقليمي.
تستعرض ورقة السياسات الأولية الإطار النظري للشراكة الثلاثية مع توصيات مقترحة للمضي قدماً في التطبيق العملي لما تم التوافق عليه، كما تستشرف المسار المحتمل المرجح لهذه الشراكة التي يمكن أن تؤدي إلى خلق توازن استراتيجي وتليين حالة الاستقطاب السائدة بين المحاور المتنازعة. فإذا ما استطاع العراق تنويع خياراته مبتعداً عن طهران دون الإضرار باستقراره الأمني، فإن الاحتقان المزمن سيشهد انفراجة يمكن تعميمها على أكثر من دولة وبأكثر من اتجاه.
ويمكن لصناع القرار التحقق من الجدوى السياسية لهذه الشراكة عبر الاطلاع على هذا العمل الذي استغرق إعداده وقتاً وجهداً في سبيل تقديم محتوى متكامل لما تحوزه هذه الشراكة من عناصر قوة وما يعترضها من تحديات، كما سيقوم فريق العمل بإعداد مجموعة أجزاء من هذه الورقة تناقش الجوانب الفنية الاقتصادية والأمنية والعسكرية للشراكة الثلاثية بين عمّان والقاهرة وبغداد.
لمحة نظرية
قبل القمة الأخيرة التي جمعت قادة الدول الثلاث، وفي أثناء زيارة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية؛ كشف رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في مقابلةٍ له مع صحيفة "The Washington Post" أنه سيطرح مشروع "بلاد الشام الجديدة" - وفق النمط الأوروبي - على قادة مصر والأردن، والذي سيتضمن تدفقاً أكثرَ حريةً لرأس المال والتكنولوجيا بين الدول المعنية، على الرغم من أنه لم يوضح ماذا يقصد بـ "النسق الأوروبي" للمشروع أو الدول الأعضاء فيه، فتاريخياً كان لفظ بلاد الشام رديفاً لكتلة جغرافية قلبها دمشق، كما أن مصر لا تُعتبر جزءاً تقليدياً من بلاد الشام.
ومما زاد من غموض "بلاد الشام الجديدة" هو عدم تطرق البيان المشترك للقمة الثلاثية حرفياً للمشروع، كما أن الكاظمي لم يكرر ذكر التسمية في تصريحاته في عمّان، ما جعل بعض التقارير الصحفية تشكك في وجود مثل هذا المشروع لافتراضها ضعف الدعم السياسي اللازم لإنجاحه.
نظرياً؛ ما يجري من مباحثات مشتركة في العواصم الثلاث، ما هو إلا نقاش لتكامل متدرّج وفق المدرسة الليبرالية الأوروبية، وفيها تتفاوض الدول على صيغة مشتركة من الأهداف وسبل تحقيقها في إطار من المصالح الاقتصادية المتبادلة التي قد ترقى إلى درجة اعتماد الدول الأعضاء على بعضها البعض "Mutual Interdependence" وتكون هذه التفاعلات الاقتصادية مدفوعةً بمخاطر مشتركة تهدد الاستقرار النسبي، وبذلك يتحقق التوازن بين مصلحتين حيويتين للدولة: الأمن والاقتصاد.
إلا أن النظرية الليبرالية للتكامل الإقليمي تتطلب توافر بناء مؤسسي لهيكل إداري واضح ومنظم يجمع بين الدول الأعضاء على مبدأ احترام السيادة، ولا يزال من المبكر تقييم فاعلية "السكرتاريا التنفيذية" المستحدثة وما إذا كانت هيكلاً صلباً يمكنه إدارة العلاقات البينية للدول الأعضاء أم لا.
وبالرجوع إلى البيانات الرسمية السابقة حول اجتماعات القمة، وما تداولته وسائل إعلام من مشاريع محتملة، يجري تباحث جاد لإقامة تعاون حقيقي في مجالات وقطاعات استراتيجية، بمكن إيجازها بـ "النفط مقابل الإعمار" حيث سيتم إنشاء أنبوب نفط عملاق من البصرة إلى ميناء العقبة ليتم تصدير النفط إلى عدة وجهات أبرزها مصر، وفق معادلة تسعيرية لم يتم الإعلان عنها بالكامل، على أن تدفع الأردن ومصر جزءاً من كلفة النفط - ليس نقداً وإنما عبر تنفيذ مشاريع في قطاعات مثل البنية التحتية، والكهرباء، والصحة، والإسكان، والزراعة.
وقد وقّعت الحكومتان العراقية والمصرية بالفعل في ديسمبر 2020 مذكرة تفاهم وبروتوكول تعاون لتعزيز تبادل الخبرات من أجل تنفيذ 15 اتفاقية سابقة بصيغة "النفط مقابل الإعمار" وتوزعت على مجالات الإسكان والإعمار والنقل والموارد المائية والصناعة والتجارة والمالية والاستثمار والصحة والبيئة والعدل.
وفي هذا الإقليم الذي يتسم باللايقين وبأحداثه غير المتوقعة، سيزيد "النفط مقابل الإعمار" من أمن الطاقة لكلٍ من الدول الثلاث. فالعراق سيصنع مسار "طوارئ" لتصدير النفط العراقي بعيداً عن مياه الخليج العربي، ففي حال اندلاع اضطراب كبير في مضيق هرمز، قد يتعذر تصدير نسبة ضخمة من هذا النفط.
أما الأردن ومصر؛ فيعاني كل منهما من ارتفاع فاتورة الطاقة التي تستهلك جزءاً من القدرة الشرائية للمواطنين وترفع الكُلف التشغيلية للمصانع والمؤسسات. وجدير بالذكر أن وزير البترول والثروة المعدنية المصري، طارق الملا، وقّع في يناير 2017 أثناء زيارته بغداد اتفاقيةً لإمداد مصر شهرياً بمليون برميل نفط - مبدئياً - من نفط البصرة وبشروط دفع ميسرة. وجاء هذا التوقيع بعد أن توقفت شركة أرامكو عن تزويد مصرَ بكمياتٍ متفق عليها مسبقاً.
وبطبيعة الحال سيترافق مع "النفط مقابل الإعمار" مزيد من التنسيق حيال مصالح وتهديدات مشتركة، كالأمن الغذائي الذي احتل أولوية في اهتمامات مختلف الدول بفعل الاضطراب الكبير الذي أحدثته جائحة كورونا بسلاسل التوريد العالمية، والأمن المائي حيث يعاني الأردن من أزمة شح المياه في حين تتقلص كمية المياه المتدفقة إلى النيل المصري ودجلة العراقي بفعل إقامة إثيوبيا وتركيا لسدود ضخمة تحبس المياه المتدفقة إلى الدولتين.
البيئة الإقليمية المشتركة
لم تخْلُ اجتماعات القادة الثلاثة من المضامين السياسية، إذ يتم التأكيد دائماً على مركزية القضية الفلسطينية، وضرورة إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران لعام 1967 كسبيل وحيد لإحلال السلام.
وبسبب التداخل الجغرافي والأمني للأردن ومصر في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن كلا الدولتين تُعتبران "دول مفتاحية" فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، لما تمتلكانه من أدوات مؤثرة، ولا يمكن لأي صيغة إقليمية أو دولية حيال هذا الملف أن تتجاوزهما أو تقصيهما.
ويدعم الجانبان المصري والعراقي دورَ الوصاية الهاشمية في حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية، ويأتي هذا الإسناد في وقتٍ تراجعت فيه أولوية "القضية الفلسطينية" على قائمة الأجندات العربية، نظراً لانشغال الدول بتحديات داخلية وخارجية غير مرتبطة في بعض الحالات بهذه القضية، ولبروز معطيات إقليمية جديدة.
ويكاد يكون التهديد الإيراني أحد الدوافع المهمة لنمو علاقات إسرائيل مع بعض العواصم العربية، وهي العلاقات التي أثارت تبايناً في ردود الفعل تجاهها، إلا أن اللافت في بعض المواقف العربية كان ما صرّح به المتحدث باسم رئيس الوزراء العراقي، أحمد ملا طلال، في أغسطس 2020، بأنه جدد التأكيد على منع القانون العراقي من إقامة علاقات مع إسرائيل، إلا أنه لم يتطرق إلى الدول العربية التي تُقيم أو تنوي إقامة علاقات مع إسرائيل مُعتبراً أن ذلك هو "شأن داخلي لتلك الدول". ويمكن اعتبار هذا الموقف نقطةَ تحول في موقف الحكومة العراقية التي كانت دائماً ترفض قيام دول عربية بنسج علاقات مع تل أبيب.
وفي سياقٍ متصل، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، حسن كعبية، في تصريحات صحفية له في أغسطس 2020 عن وجود "سفارة افتراضية" في العراق، مُعرباً عن أمله بانضمام العراق لاتفاقيات التطبيع. وبالبحث عن هذه السفارة، اتضح أنها صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي أُنشئت في مايو 2018 وهي موجَّهة للجمهور الإسرائيلي وبإدارة موظفين رسميين إسرائيليين.
وقد يبدو هذا النمط من التواصل الافتراضي عديمَ الجدوى ولا يستند على شبكة من العلاقات على أرض الواقع، إلا أن المعطيات تُظهر أن هذه السفارات الافتراضية التي تم افتتاحها في أكثر من دولة عربية أسهمت في كسر كثير من الحواجز النفسية في التواصل العلني بين الجمهور العربي والعبري، وتواكبت هذه "الدبلوماسية الرقمية" مع تنامي مجالات التواصل والتنسيق وصولاً إلى اجتماعات علنية أو حتى إقامة علاقات طبيعية.
وبالعودة إلى مشروع "الشام الجديد" فقد تداولت وسائل إعلام أن هذه التسمية ليست جديدة، بل أطلقها البنك الدولي على بحث ضخم يتكون من 317 صفحة، أعلن عنه في مارس 2014 بعنوان "في الأفق: مَشْرِق جديد"، يدرس الفرص والإمكانيات لبلورة تكامل اقتصادي إقليمي يضم سبع دول هي: مصر، وتركيا، والأردن، ولبنان، والعراق، وسوريا، والأراضي الفلسطينية. وتطرَّق البحث كذلك إلى انخراط إسرائيل المحتمل في بعض المجالات والقطاعات كما يظهر في فهرسه المنشور على موقع البنك الدولي.
إلا أن إقدام العراق على إقامة تواصل مع أي جهة إسرائيلية لا يمكن النظر إليه بمعزل عن علاقتها بإيران التي تمتلك تحالفاً استراتيجياً مع سوريا، وحزب الله (لبنان)، وأنصار الله - الحوثيين (اليمن). وتشير كثير من المعطيات إلى أن إيران هي الدولة الشرق أوسطية صاحبة الحضور الأكثر سلبية في مشهد الصراع الشرق الأوسطي، فهي ما زالت تُروّج أنها تمتلك الأذرعَ القادرة على التأثير على أمن دول المنطقة وأمن إسرائيل. ولذلك قد تحرص الأخيرة على إحداث اختراقات غير مباشرة في محور طهران، بغيةَ تغيير شكل العِداء الإيراني الإسرائيلي المتبادل.
ويُتوقع في مرحلة لاحقة من سريان الاتفاق النووي "الجديد" بين إيران ودول "5+1" أن تعدّل طهران من سياساتها الإقليمية بما يحد من "الفيتو" الذي تفرضه على بعض قرارات السياسة الخارجية لحلفائها لا سيما تلك التي تتصل بعلاقات العراق مع محيطه العربي، كما تُصرّح بذلك شخصيات رسمية أو إعلامية. فعلى الأغلب لن تُكرر إدارة بايدن الخطأ الكبير الذي ارتُكب في اتفاق 2015 عندما رفعت إدارة أوباما كثيراً من العقوبات دون انتزاع ضمانات بأن الوفر المالي المتحقق لإيران لن يُستخدم لخدمة نفوذها الإقليمي وإنما سيُوجَّه إلى الداخل الذي يعاني حالياً من احتقان اقتصادي بفعل انهيار سعر صرف الريال الإيراني وتبعات أزمة كورونا.
وفي مرحلة لاحقة من "تطويع" السلوك الإيراني – إن تم – يمكن للاختراقات العربية في الساحتين العراقية والسورية أن تحد من النفوذ الإيراني في هاتين الدولتين، ليس عبر التصادم المباشر مع وسائل هذا النفوذ وإنما عبر خلق مصالح جديدة تعمل على "انزياح" هاتين الدولتين عن المركزية الإيرانية من خلال مزاحمتها بأدوات القوة الناعمة بما يُخلّ من متانة القوة الصلبة التي تحوزها طهران في عواصم عربية.
وقد أكدت كل البيانات المشتركة التي تلت اجتماعات القادة الثلاثة على ضرورة حل الأزمات في الدول العربية بما يحفظ استقلالية هذه الدول، ويصون الأمن القومي العربي، ويحول دون التدخلات الخارجية في الشؤون العربية الداخلية خارج الإطار السيادي للدولة.
ويكاد يُجمع الخبراء المحايدون على أن الارتهان لسياسة المحاور يُعمّق من الأزمات الراهنة ويزيد من حالة الاستقطاب في المواقف، وهو ما يجعل التوصل إلى تسوية في أزمة ما - كالأزمة اليمنية مثلاً - رهناً بتوصل الأطراف الإقليمية إلى تسوية شاملة تتضمن هذه القضية أو تلك.
وتُدرك كثير من الدول العربية، لا سيما العراق، التكلفة الباهظة سياسياً وأمنياً لتبعات الاستقطاب السياسي الداخلي والإقليمي. ولذلك فإن هنالك ضرورة لإعادة ضبط توازنات الإقليم ضمن تصور يحافظ على السيادة الوطنية ويُحسّن علاقات العراق مع الدول العربية. وهذا الهدف لا تتردد حكومة الكاظمي في التعبير عنه بوضوح، وقد أعاد الكاظمي التأكيدَ عليه أثناء حديثه في جلسة مجلس الوزراء التي تلت القمة الثلاثية الأخيرة مُعتبراً أن "إبعاد العراق عن سياسة المحاور هو المنهج الذي تسير عليه الحكومة الحالية".
ولا يزال أمام حكومة الكاظمي الكثير من العمل لإعادة ضبط السياسة الخارجية العراقية وتحييد الساحة العراقية عن التوتر الأمريكي الإيراني الذي قد يشهد انفراجة في الشهور القادمة. وهو ما يتطلب من الدولة العراقية تأكيد سيادتها في فرض القانون واحتكار حق استخدام القوة الذي هو حق حصري للدولة لا ينبغي أن تنازعها فيه أي جهة محلية أو خارجية. وهنالك تيار داخل الدولة العراقية يسعى إلى النأي بالساحة العراقية عن "الحرب بالوكالة" المندلعة في الإقليم.
إلا أن نجاح هذا التيار في تشكيل مثل هكذا واقع، يرتبط بالتفاعلات الإيرانية الأمريكية، وبالتفاعلات الإيرانية مع دول عربية كالسعودية والإمارات. وفي هذا التوقيت، يبدو أن التوصل إلى تسوية كبرى أصبح قريباً، لا سيما وأن القوى الإقليمية تدرك مدى الدمار الشامل على الصعيد الإنساني والاقتصادي الذي سببه هذا الجمود. وهو ما يستدعي - لحظياً - عقلانية القرار السياسي والبحث عن بدائل تعظم القواسم المشتركة وتحترم الاختلافات الإثنية، فلا مكاسب خارجية تُرجى من إطالة أمد الأزمات الإقليمية في ظل ظروف داخلية ضاغطة، كتفشي كورونا، وانخفاض أسعار النفط.
ومن المؤكد أن ينعكس أي تحسن في المناخ الإقليمي العام على مستوى التنسيق بين الدول الثلاث (الأردن ومصر والعراق). إلا أن على هذه الدول التحرر من القيود الإقليمية "المصطنعة" التي تحول دون انسيابية العمل المشترك.
ولا يعني ذلك وجود معارضة إقليمية للمشروع المرتقب، فمن المستبعد أن تلقى هذه الخطوة العراقية رفضاً إيرانياً قاطعاً. وبالمثل تراعي عمّان والقاهرة الاعتبارات الأمنية لحلفائهما، أي أن التنسيق الثُلاثي لا يعكس رغبة سياسية في فرض معادلات إقليمية جديدة جزئياً، فهو ليس تحالفاً جديداً أو محوراً مناكفاً، وإنما إطار عام بصبغة اقتصادية تنموية.
خطوات مقترحة
يتضح مما تم استعراضه في هذا التقرير أن المشروع الثلاثي عقلاني ومتدرج، فسقف التوقعات المرجوّة يُمكن تحقيقه إن توافرت الإرادة السياسية الجادة لتحقيق المصالح المشتركة بمعزل عن ديناميكية الأحداث في الإقليم.
ويبدو أن الدول الثلاث تميل إلى تقارب أوسع، ولكن ضمن تسوية إقليمية وليس كقرار منفرد، فلذلك سيكون انفتاح العلاقات تدريجياً وضمن وتيرة لا يُتوقع معها الإخلال بتوازن القوى. ومقدرة هذه الدول على تشكيل "ترويكا استقرار إقليمي"، تقترن بمدى قدرتها على النأي بالنفس عن حرب النفوذ الإقليمية وتَحرُّرها من القيود التي تفرضها اعتبارات المحاور المتنافرة. وعلى المدى المتوسط؛ من الممكن أن تساهم هذه الترويكا - إن كانت فاعلة - في خلق تسوية إقليمية كبرى بين السعودية وإيران.
فبمقدور هذه الترويكا المبادرة في حل الأزمات الإقليمية بدل اعتماد استراتيجية الانتظار والترقب "Wait and See" التي تُبقي الحلول رهينة لتحسن العلاقات الإقليمية وانتظار مآلات التطورات القادمة، والتي وإن حدثت قد لا تكون في الصالح العام للدول الثلاث.
في المقابل، سيصطدم هذا الإطار الثلاثي بعقبات فنية واقتصادية وسياسية، يمكن تحويلها إلى فرصة للتكاتف الثلاثي للتغلب عليها، فالأزمات عبر التاريخ تلتها نقاط تحول؛ إما باندلاع حرب أو بتحقيق رؤيا مشتركة للتوصل إلى حل لهذه الأزمات. ومن أجل التغلب على هذه التحديات، ولضمان التطبيق العملي لما تم التوافق عليه رسمياً عبر الدول الثلاث؛ يمكن للتـــــــــــــوصــيـــات التالية أن تسهم في تحقيق الأهداف المنشودة للإطار الجديد وأن تضمن استمراريته للسنوات المقبلة:
1. إن إيران جزء من المنطقة وتصرفاتها تنعكس سلباً على كثير من دولها، فلا يمكن للأردن أو مصر تجاهل وجودها، لذلك يُعتبر الإطار الثلاثي مهماً لإعادة ضبط العلاقات مع إيران وتحديداً للأردن، فمن المهم التواصل البنّاء معها فيما يتعلق بجنوب سوريا ومكافحة الإرهاب في العراق. وقد يحدث هذا التواصل عبر طرف ثالث – كروسيا مثلاً – ليتم لاحقاً تبادل تسمية السفراء بين الجانبين وعودة العلاقات الدبلوماسية بصورة متدرجة تراعي المتطلبات الأمنية والسياسية للأردن وحلفائه وشركائه في المنطقة.
2. تُعتبر المحادثات الأمريكية-الإيرانية بخصوص الملف النووي الإيراني فرصة مهمة للأردن، من أجل إيجاد حضور إيجابي في القرار السياسي الإيراني؛ حيث يُمكن للخارجية الأردنية والعراقية ممارسة دور مؤثر في المحادثات الإقليمية التي يُتوقع تزامنها مع المحادثات الدولية بين طهران وواشنطن. وإذا ما نجحت الدبلوماسية المشتركة - الأردنية والعراقية - في "حجز" مكانها كوسيط في الملفات الشائكة المتعلقة بإيران، يمكن عندها كسر "الفيتو" الذي يرى مراقبون أن إيران تضعه أمام قيام علاقات استراتيجية للعراق مع محيطه العربي.
أحد أسباب هذا الفيتو يرجع إلى خشية طهران من خسارة بعض مكاسبها الاقتصادية في الساحة العراقية، حيث تُعد الأسواق العراقية وجهة رئيسية للسلع الإيرانية، ويكاد يكون العراق مستثنى، بحكم الأمر الواقع، من العقوبات الأمريكية التي تُفرض على من يقوم بعمليات تجارية واقتصادية مع جهات إيرانية. ففي يونيو 2020، ووفقاً لما نقلته وكالة الأناضول، وقّعت وزارة الطاقة الإيرانية عقداً مع وزارة الكهرباء العراقية لتصدير كهرباء وغاز إلى البلاد التي تعاني من انقطاع مستمر في التيار الكهربائي.
وبهذا الخصوص لا بد من الإشارة إلى أن التفاهمات الثلاثية ضمن إطار "عمّان – القاهرة – بغداد" تشمل مشاريعَ للربط الكهربائي، وزيادة التبادل التجاري بين الدول، ولن تعمل هذه المشاريع بانسيابية إذا ما اصطدمت مع مصالح إيرانية راسخة. إلا أن العراق فيه من الفرص والإمكانيات ما يؤهله لاستيعاب مزيد من المشاريع دون الإضرار بمصالح موجودة لأي طرف.
وقد لا تضع طهران العراقيل في المرحلة الآنية أمام تطور العلاقات الثلاثية، لما يمكّنها نفوذها في بغداد من ممارسة ضغط لاحق على عمّان ومصر بعد "اعتيادهما" على الوضع النفطي الجديد، وبالتالي التأثير على منظومة حلفاء الرياض. وهنا ينبغي على عمّان والقاهرة الحذر وعدم التسرع في تنفيذ المشاريع الاستراتيجية قبل التوصل إلى ضمانات من الدولة العراقية أن لا متطلبات سياسية لاحقة ستطرأ على العلاقة الثلاثية، وربما قد تم بحث هذه الضمانات - بالأساس - في المستوى الأمني سابقاً.
3. تعزيز البنى التحتية الداعمة للمشاريع المقترحة، لا سيما في قطاع الطاقة. وعلى هامش زيارة الكاظمي إلى واشنطن في أغسطس 2020، وقّعت الحكومة العراقية اتفاقيات مع شركات طاقة أمريكية بقيمة إجمالية تبلغ 8 مليار دولار، وفقاً لوزارة الطاقة الأمريكية، تركّز بعضها على رفع كفاءة العمل في الحقول المستكشفة.
وتجنباً لأزمات فنية مستقبلية، وكمتطلب سابق يجب اتباع أحدث التكنولوجيا في تنفيذ مشروع البصرة - العقبة، فطول مسار الأنبوب والاختلافات الطبوغرافية لسطح الأرض، يُعقّدان من تنفيذه. كما يقع جزء مهم من نجاح هذا الأنبوب على عاتق الحكومتين الأردنية والمصرية، إذ أن ساحل العقبة سيكون النقطة التصديرية للنفط، مما يتطلب تجهيزات لوجستية وتطوير مرافق الموانئ المخصصة للتعامل مع الصادرات النفطية.
4. التنسيق مع المشاريع الإقليمية الاستراتيجية (السياسية والتنموية والاقتصادية) والحيلولة دون تضارب "المصالح" بسبب تعدد هذه المشاريع، مثل مشاريع غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، ومشروع أبو ظبي-عسقلان لتصدير النفط والذي تباينت التقييمات المصرية حول تداعياته على إيرادات قناة السويس لأنه سيحد من كمية النفط المتدفق عبر القناة إلى أوروبا. إلا أن هيئة قناة السويس أصدرت بياناً قدّرت فيه نسبة التأثير بـ 0.61% من إيرادات القناة نافيةً بذلك تصريحات متخوفة لمسؤولين مصريين قدّرت النسبة بـ 16% من عائدات القناة.
والملاحظ عادةً في الشرق الأوسط عدم وجود رغبة في الدمج بين المشاريع الإقليمية المختلفة، بسبب الخلافات السياسية، ورغبةً من بعض الأطراف في انتزاع أكبر قدر من المكاسب بصورة أحادية.
5. السعي إلى تبني دول مجلس التعاون الخليجي لهذا الإطار الثلاثي، من الناحية السياسية والتمويلية، لما يمثله من نواة لعمل تنموي بعيداً عن الشحن السياسي المسيطر على الإقليم. فإذا نجحت هذه الشراكة الثلاثية يمكن لاحقاً استقطاب دمشق وفق صيغة دولية للحل في سوريا. وهو ما سيصب في صالح تعزيز العلاقات العربية وتحقيق توازن إقليمي لصالح دول الخليج العربية.
6. إنشاء صندوق استثماري تنموي تساهم فيه القطاعات العامة والخاصة في البلدان الثلاثة وبنسب عادلة تتوافق مع الناتج الإجمالي المحلي لكل دولة وحصتها من المشاريع المشتركة، بحيث تكون مهامه موجَّهة نحو الجوانب التالية:
- الربط المالي بين البنوك المركزية والقطاع المصرفي والدفع باتجاه تعزيز الحركة الإقراضية الاستثمارية، وتبادل الخبرات والمعلومات حول آليات ضبط وتسيير السياسات النقدية من خلال توقيع مذكرات التفاهم والتعاون في هذا المجال.
- تأسيس شركات مساهمة تختص في مجالات اقتصادية متعددة (صناعة، زراعة، إنشاءات ..إلخ)، بحيث تكون مُدرجة في الأسواق المالية للبلدان الثلاثة، وتحظى بتسويق مستمر من الأجهزة الإعلامية وحتى في سياق العمل الدبلوماسي. ويمكن اعتبار مساهمة الأفراد في هذه الشركات ورقةً سياسية لكسب الثقة الشعبية التي تسجل مزيداً من الانخفاض في معظم الدول منذ عام 2011.
- الاهتمام بالعمل الإحصائي لقياس القدرات الصناعية والزراعية والتكنولوجية، ومن ثم الاستدلال على الوجهات الاستثمارية الأنسب، وما يرتبط بذلك من دراسة مؤشرات البطالة والتخصصات والمهارات التي تمتلكها القوى العاملة للحصول على أفضل توظيفات للرأس المال البشري.
7. العمل على إعداد قراءة معمقة للواقع الزراعي - قد يكون من مهام الصندوق التنموي - كمقدمة لبناء استراتيجية شاملة للأمن الغذائي المشترك، بما في ذلك تحديد الاحتياجات الغذائية لكل بلد وقدراته التصديرية والأسواق الأفضل للتصدير، ووضع هدف يتمثل في الوصول إلى شكل أرفع من رأسمالية الزراعة التي لا تكتفي بإنتاج المواد الغذائية بشكلها الخام فقط وإنما إدخالها أيضاً في عملية التصنيع الغذائي لإنتاج سلع استهلاكية متنوعة.
ويرتبط بجزئية الزراعة تحدي شح الموارد المائية؛ ما يستدعي التنسيق والتعاون من أجل البحث عن بدائل من قبيل تكثيف عمليات البحث والتطوير في مجال إعادة تكرير واستصلاح المياه العادمة، وتحلية مياه البحر، وإرساء قاعدة تكنولوجية متقدمة لشبكات الري، وترشيد استخدام المياه في المجال الزراعي.
8. إنشاء مشاريع مشتركة ذات قيمة اقتصادية مضافة عالية، كالصناعات التحويلية والبتروكيماويات.
9. تشكيل لجنة علمية فنية عالية المستوى تبحث في تبادل القدرات التكنولوجية، على أن يتم لاحقاً التأسيس لمعهد تقني يضم خبرات من الدول الثلاث.
10. الاستفادة من المكانة السياحية لمصر في التأسيس لمسارات سياحة إقليمية، ويمكن تشكيل لجنة عليا تبحث في الفرص السياحية التي يمكن جنيها عبر التعاون مع دول الشراكة الثلاثية، فمثلاً يمكن لوزارتي السياحة المصرية والأردنية الترويجَ لجولات سياحية تشمل الأهرامات وشرم الشيخ والبتراء، وفي حال تحسَّنّ الوضع الأمني في العراق فيمكن التوسع إلى مواقعه الأثرية المهمة.
11. زيادة الميزات التفضيلية الممنوحة للعراق في ميناء العقبة ومسارات الشحن عبر الجغرافيا الأردنية.
12. التوافق على "الأخطار المشتركة" أمنياً، فلا تزال العلاقات البينية يلزمها تعميق الثقة وزيادة درجة اليقين فيما يتعلق بالنوايا. فلكل دولة من الدول الثلاث خصوصية أمنية تختلف بدرجات متفاوتة عن الدولتين الأخريتين.
13. تشكيل خلية عمل أمنية ثلاثية لرفع التنسيق المشترك ضد الإرهاب ولتسريع تبادل المعلومات حيثما تطلب الأمر ذلك، وأن يكون التواصل مستداماً عبر قنوات اتصال منتظمة. فنظراً لطبيعة الدول الثلاث التي يمتلك فيها المستوى الأمني نفوذاً واسعاً، يمكن للعلاقات الأمنية أن تحتوي ما يُستجد من خلافات، ولكن ينبغي التأكيد على أن المشاريع التنموية تُدار بصورة رئيسية من المستوى الفني المعني.
14. عقد مناورات عسكرية دورية مشتركة بين الدول الثلاث تحاكي سيناريوهات "عودة الإرهاب" للتمدد في نطاقات سكانية، بحيث يكون هنالك استعداد للاستجابة والتدخل السريع بصورة لوجيستية عملياتية لوأد التهديد الإرهابي في مهده.
15. بحث التشارك في تعزيز الصناعات العسكرية المحلية ورفع كفائتها بما يتناسب والتحديات المستجدة. ويمكن تشكيل لجنة فنية ثلاثية مقرها القاهرة لتباحث الإمكانيات التي يمكن لكل دولة مشاركتها مع الدولتين الأعضاء.
16. إنشاء مركز أبحاث مشترك لإعداد الخطط والدراسات الاستشرافية في القضايا ذات الاهتمام المشترك في مجالات اقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها من المجالات المرتبطة بحالة التنمية، على أن يتولى المركز التنسيق بين الخبرات والكفاءات في الدول الثلاث وإعداد منتدى سنوي لمناقشة التغيرات الجيوسياسية والعالمية.
17. تأسيس مركز مشترك للرصد والوقاية من الأوبئة بحيث يعمل كنظام إنذار مبكر لحالات التفشي التي قد تحدث فيما يُستجد من أزمات صحية. وقد استحدث الأردن مؤخراً المركز الوطني لمكافحة الأوبئة، وهو مؤسسة قادرة على "التشبيك الصحي" مع مصر والعراق. ولن تقتصر الفوائد على الدول المشاركة فقط، بل سيعم تأثيرها على دول المنطقة التي يمكن لها الانضمام للمركز بعد تأسيسه، فقد أثبتت جائحة كورونا أن أي تفشي للبؤر الوبائية هو ليس تحدٍ محلي فقط بقدر ما هو تحدٍ مشترك للدول المحيطة ويتطلب تضافر الجهود الممكنة للاستجابة لهذا الانتشار.
18. تعديل اللوائح والأنظمة الضابطة بحيث تتوافق مع المواصفات والمقاييس في كل دولة، فاختلاف المعايير المتبعة في كل بلد قد يحول دون انطباق الشروط الفنية اللازمة للمضي قدماً في المشاريع، وهنا تبرز أهمية توحيد المعايير القياسية "Standardization". وجدير بالذكر أن نقابة المقاولين الأردنيين أجرت في وقتٍ سابق محادثات فنية في بغداد تمحورت حول هذا الجانب.
19. العمل المشترك على معالجة تعقيدات المشهد المحلي في كل من الدول الثلاث، حيث تُظهر قراءة الموقف في هذه الدول، انخفاضَ قدرتها على مساعدة بعضها في معالجة هذه التعقيدات، فالتحديات الأبرز التي تواجه مصر هي: سد النهضة، والأزمة الليبية، والحركات الإرهابية في سيناء، ولا تمتلك عمّان وبغداد الأدوات الناجزة لإسناد الموقف الرسمي المصري في هذه القضايا، إلا أنه يمكن لمصر تقوية موقفها في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي عبر تنويع خياراتها المتاحة وصناعة تحالفات جديدة في بلاد الشام تدخل في رصيدها الاستراتيجي الضاغط نحو حماية المصالح العليا لمصر في مجالها الحيوي المحيط بها.
أما العراق، فتُعد أراضيه ميدانَ حرب بالوكالة بين أطراف إقليمية ودولية كبرى، وتشهد ساحاته احتجاجات معيشية متكررة بين الفينة والأخرى، وكما هو في الحالة المصرية، لا تمتلك عمّان والقاهرة الأدوات الناجزة لإسناد الموقف الرسمي العراقي في هذه القضايا.
وبالمثل لا تستطيع القاهرة وبغداد مساعدة الأردن - بصورة حاسمة - في معالجة تحدياته الداخلية التي أبرزها ارتفاع نسبة الديْن العام إلى الناتج الإجمالي المحلي، أو حتى في تحدياته الخارجية المرتبطة بتطورات القضية الفلسطينية.
وبالتالي يتعين على الدول الثلاث عدم الربط بين إحراز تقدم في إطار العمل المشترك وبين تحسُّن الوضع المحلي، وإنما المضي قدماً في التنفيذ الفني للمشاريع المقترحة والبحث عن أي فرصة قادمة لحل أزماتها المحلية عبر الإطار المشترك بعد أن ينضج ويحتل مكانته في السياسة الإقليمية.
20. دراسة فتح الباب أمام دول تتقاطع أوضاعها الاقتصادية والسياسية والأمنية مع الإطار التنموي (عمّان - القاهرة – بغداد) للانضمام لهذه الشراكة.
21. تحييد "السياسة" والتركيز على الجانب التنموي رغم صعوبة هذا الأمر في إقليم مُسيّس، ما يعني صعوبة تنفيذ الرؤية المشتركة وفق "النسق الأوروبي" كما افترض الكاظمي في مقابلته سابقة الذكر. فالتكامل الاقتصادي بحسب المدرسة الليبرالية، يتطلب تخفيف النزعة السياسية في العلاقات الخارجية، وعدم إعطاء الأولوية للسياسة الخارجية على حساب باقي المجالات.
22. جسْر الفجوة المذهبية بما تحمله الدول الثلاث من ثقل ديني: مرجعية الأزهر السنية ومرجعية النجف الشيعية والمرجعية الهاشمية الجامعة للسنة والشيعة من حيث الفقه والنسب. وجدير بالذكر أن مرجعية الأزهر شبه مستقلة عن نظيرتها في مكة، ومرجعية النجف شبه مستقلة عن نظيرتها في قم الإيرانية، وفي هذا التوقيت الذي سئمت فيه شعوب المنطقة من تكبُّد كلف النزاعات الطائفية، يمكن للمرجعيات الثلاث إطلاق "حوار ثقافات" عملي جاد يمكن الانطلاق منه لإحراز تقارب قيمي إسلامي يشمل مكة وإسطنبول وقم في مرحلة لاحقة، مستفيداً ومدعوماً من صعود موجة التسامح والسلام في المنطقة.
مسار محتمل
في ظل الأزمات الداخلية التي تواجهها مختلف الدول الإقليمية، هنالك ضرورة لاتباع سياسة "صفر مشاكل" مع دول الجوار التي تمنح الدول التي تنجح في تحقيقها مرونةً جيوسياسية للتركيز أكثر على الشأن المحلي. فبعد أن عجز النهج السابق عن إيجاد حلول للتحديات الفعلية الملحّة؛ من الضروري تبني مقاربات جديدة تبتكر الوسائل والأدوات الكفيلة بتحسين الوضع القائم.
وسيتعين على الدول الثلاث، إذا ما أرادت إنفاذ رؤيتها، ضخَّ زخم سياسي إيجابي في السياسة الإقليمية، والمساهمة في بلورة تسوية شاملة، ليس فقط عن طريق دبلوماسية صندوق البريد ونقل الرسائل بين فرقاء الإقليم، وإنما عبر المبادرة في إعادة تأهيل البيئة السياسية الإقليمية، واستحداث منهج جديد في التعاون الاقتصادي بمعزل عن التوترات السياسية.
وبذلك ستتمكن هذه الدول الثلاث من التأسيس لإطار عمل قابل للتمدد نحو أهداف أعمق وأعضاء أكثر، فسوريا التي تنتظرها "ورشة" عملاقة من الإعمار السياسي والاجتماعي والاقتصادي يمكن أن تكون في مرحلة لاحقة جزءاً من الإطار الثلاثي وفق ترتيبات إقليمية ودولية للحل السياسي، حيث يتعذر حالياً تعامل أي كيان مع معظم الجهات الاقتصادية في سوريا، سواء الحكومية أو الخاصة، تجنباً للتعرض لعقوبات أمريكية يتيح فرضها قانون "قيصر" الذي أُقر لتقييد التعاملات الاقتصادية مع سوريا، إلا أن القانون تضمَّن بنوداً تتعلق بإمكانية تعليقه جزئياً أو كلياً وفق شروط معينة أبرزها "وقف عمليات قصف الطيران السوري والروسي ضد المدنيين" و"تأمين الدخول في عملية المصالحة والحوار".
فهنالك أهداف مزدوجة يمكن لواشنطن تحقيقها من دعم الإطار الثلاثي "الأردن – مصر – العراق" لا تتمثل فقط في إضغاف الثقل الإيراني الإقليمي، وإنما أيضاً في تعزيز حضورها الجيوسياسي في وجه الصين التي تطمح إلى الاستفادة من موقع الشرق الأوسط كحلقة وصل في مبادرة "الحزام والطريق". مما قد يدفع واشنطن إلى حشد الدعم للإطار الثلاثي من الدول الإقليمية، والضغط نحو إنجاحه بما يشتمل عليه من مشاريع تُعنى بالتجارة البحرية والبرية.
السيناريو المرجح لمستقبل الإطار الثلاثي: إحداث نقلة نوعية في بعض المجالات كالتبادل التجاري وتطوير المناطق الصناعية المشتركة، وستلقى مجالات حيوية، كربط الطاقة، ممانعة قد تحول دون تحقيقها على المدى القصير على الأقل.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: