تحاول تركيا صياغة موقف خاص من الأزمة الأوكرانية، توازن به بين التزاماتها كعضو في حلف شمال الأطلسي "الناتو" من جهة، وبين واقعها الجيوسياسي الذي يدفعها لعدم معاداة روسيا من جهة أخرى، لا سيما وأن كثيراً من الملفات المهمة في الحسابات التركية تتقاطع مع الحسابات الروسية، كالأزمتين السورية والليبية.
ويظهر هذا التوازن في تصنيف تركيا للعمليات الروسية في أوكرانيا بـ"الحرب" وإدانة مسؤوليها لهذه العمليات، كما صوتت تركيا لصالح قرارات أممية ضد روسيا، كتصويتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة لتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الانسان.
في المقابل لم تنضم تركيا إلى جبهة العقوبات ضد روسيا، لأسباب اقتصادية وسياسية، فهي لا تريد عزل روسيا عن العالم وإنما الضغط عليها للتأثير في أوجه سياستها الخارجية الصلبة.
وبسبب هذا التوازن استطاعت تركيا استضافة وإدارة جلسات عدة من المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني، فقد ظهرت بوصفها القناة الأكثر موثوقية للدولتين، الأمر الذي أنعكس في محاولاتها لتجاوز دور الوسيط والمضيف، إلى حث طرفي الأزمة على تقديم التنازلات والسعي لتقريب وجهات النظر.
أما في الجانب العملياتي العسكري، فإن أنقرة لا تستطيع بلورة موقف متوازن مماثل بحكم عضويتها في حلف الناتو الذي يقيّم العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا على أنها موجهة ضد الكتلة الغربية، وبالتالي يمكن ملاحظة احتكاك تركيا عسكريا في الأزمة الأوكرانية من خلال:
1- انطلاقاً من تصنيف أنقرة لما يجري في أوكرانيا بأنه حرب، أعلنت وزارة الخارجية التركية تفعيلَ البند الخاص في اتفاقية مونترو الذي يمنح تركيا الحق في منع السفن الحربية من العبور خلال مضيقي البوسفور والدردنيل، حفاظاً على حرية وأمن الملاحة التجارية.
2- إعلان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في 23 أبريل 2022، إغلاق المجال الجوي التركي أمام الطائرات العسكرية والمدنية الروسية التي تنقل قوات من روسيا إلى سوريا، لمدة 3 أشهر، دون أن يتطرق القرار إلى الطائرات الروسية المتجهة من سوريا إلى روسيا.
3- تزويد الجيش الأوكراني بالمسيرة التركية "بيرقدار"، التي اكتسبت سمعتها من مشاركتها في سوريا وفي حسم أذربيجان لنزاعها المسلح مع أرمينيا، دون تأكيد رسمي من الجانب التركي، والذي تم عبر الحدود الأوكرانية البولندية، في ذروة العمليات الدائرة لتعويض النقص الشديد الذي أصاب المعدات الأوكرانية.
أمام هذه الخطوات الثلاث، وغيرها، يتردد مراقبون في تقييم الموقف التركي من الأزمة الروسية، وربما تزيد البراغماتية التركية المعهودة من هذا الالتباس. وقبل تقديم الآثار السياسية المحتملة للطابع "العسكري" التركي في الأزمة الأوكرانية، ينبغي توضيح تداعياته، التي يمكن إيجازها في محورين:
أولاً: المحور الأوكراني (البحر الأسود)
تعد روسيا دولة شاطئية على البحر الأسود، وبموجب اتفاقية مونترو الموقعة عام 1936 يحق للدول الشاطئية في حالة إغلاق المضيق إرجاع سفنها إلى موانئها التي تقيم فيها، مما يقلص القيود المفروضة على عبور السفن الروسية.
ولكن هذا التقليص يخضع لاعتبارات "تقنية"، فوفق تقرير نشره موقع الإذاعة الألمانية "DW" في مارس 2022؛ يجب أن تكون السفينة الحربية التي تطلب العودة إلى البحر الأسود مسجلة رسمياً ضمن أسطول الدولة في ذلك البحر، فالسفن الروسية المسجلة في بحر الشمال أو المحيط الهادئ أو بحر البلطيق لا يحق لها المطالبة بعبور المضيق التركي للعودة إلى البحر الأسود لأنه ليس قاعدتها الأم.
بيروقراطياً، يمكن لروسيا الالتفاف على هذا التقييد عبر إضافة سفنها إلى سجلات أسطول البحر الأسود، وفي جميع الأحوال لا يحق للسفن العائدة إلى موانئ البحر الأسود المشاركة في الحرب، كما قال وزير الخارجية التركي، جاويش أوغلو. وبالتالي لا يمكن لروسيا تعويض النقص الحاصل جراء إغراق الطراد "موسكفا"، ولولا التقييد التركي لكان من الممكن استدعاء قطعة عسكرية مماثلة من تلك المنتشرة في باقي الأساطيل.
تجدر الإشارة إلى أن قرار إغلاق مضيق البوسفور في وجه السفن الحربية يشمل كل دول العالم وليس موجهاً فقط ضد القطع الروسية، رغم أن أوكرانيا والناتو طالبا باقتصار المنع على القطع الروسية، ولكن روسيا تذرعت بأمن البحر الأسود والخشية من توسع النزاع فيه.
وعليه يمكن اعتبار هذا الأمر بأنه يحمل في طياته مكسباً لروسيا، إذ نقل موقع "روسيا اليوم" تقديرات عسكرية أن تركيا بقرارها إغلاقَ المضيق أمام كل السفن الحربية منعت الناتو عملياً من حصار سواحل مدينة ماريوبول، وفي السياق قال الخبير العسكري، العقيد البحري، فاسيلي دانديكين إن "تركيا لعبت دوراً في مصلحة روسيا بقرارها إغلاق البحر الأسود أمام جميع السفن الحربية. حيث قوة الأسطول الروسي في المنطقة كافية تماما لضمان أمن البلاد، وعدم وجود سفن أمريكية أو بريطانية لن يضطرنا لتشتيت القوة على متابعتها، لأن كل دخول لمدمرة أمريكية أو بريطانية كان سيتطلب تركيز الانتباه عليها. ولا توجد تهديدات لأسطول البحر الأسود من تركيا ورومانيا وبلغاريا".
وفيما يتعلق بإغلاق الأجواء التركية أمام الطائرات العسكرية والمدنية المتجهة من روسيا إلى سوريا فهذا القرار ضيق النطاق ولا يؤثر على حرية عمل الطائرات الروسية في الأجواء الأوكرانية.
ثانياً: المحور السوري (الأبيض المتوسط)
أصبح لمضيقي البوسفور والدردنيل أهمية استراتيجية قصوى لروسيا بعد انخراطها في الأزمة السورية، فهذين الممرين هما الشريان الوحيد لتدفق القطع البحرية من البحر الأسود نحو البحر الأبيض المتوسط، من أجل استدامة الإمداد اللوجستي لقواعدها في سوريا، وضمان سرعة انتشارها في وقت الأزمات أو وفق مقتضيات الضرورة الميدانية.
ويمكن افتراض أن إغلاق مضيق البوسفور أثر في التواجد العسكري الروسي في سوريا بدرجة لا تقل عن تأثير الاغلاق على سير العمليات البحرية في البحر الأسود. ذلك أن روسيا تمتلك ساحلاً على ضفاف ذلك البحر، كما لا تحتاج روسيا لعبور قطعها العسكرية إلى الأراضي الأوكرانية المرور بدولة أخرى. مُقارنة بالحالة السورية، التي تتطلب المرور من دول أخرى بحكم البعد الجغرافي.
إلا أن اتفاقية مونترو لا تعطي السلطات التركية الحقَّ في تفتيش السفن المدنية ما لم يشتبه في أن مرورها قد يشكل خطراً أمنياً، مما يعني أن الإمدادات العسكرية الحساسة لقوات حميميم وطرطوس يمكن أن يتم عبر السفن التجارية غير الخاضعة لقرار تعليق العبور بوجب اتفاقية مونترو.
وبالنسبة لقرار إغلاق المجال الجوي في وجه الطائرات الروسية العسكرية والمدنية التي تنقل قوات روسية إلى سوريا، فإنه يمكن لهذه الطائرات الالتفاف عبر الأجواء الإيرانية والعراقية. أما فيما يتعلق بالرحلات التجارية، فأنقرة لم تنضم من الأساس إلى الحملة الغربية لإغلاق الأجواء أمام الطائرات الروسية.
بالمجمل، يمكن القول إن القرارات التركية لا تحمل تأثيرات استراتيجية مباشرة على العمليات العسكرية الروسية، فإغلاق المضيق والأجواء لم يؤد إلى الإضرار بالإمدادات الروسية، كما أن تزويد الجيش الأوكراني بأسلحة تركية الصنع لم يخل بميزان القوى، فلم يثبت أنها كاسرة للتفوق الروسي ولم تؤدي لوحدها إلى فرض مسار مضاد للعمليات الروسية، فكمية هذا التسليح محدودة نسبياً.
ولكن قد يكون لهذه القرارات انعكاسات سياسية على الملفات التي أنجزت أنقرة تفاهمات سابقة حولها مع موسكو، كالملف السوري الذي يرى مراقبون أن ثمة مخاطر عالية من تصدع حالة "Status Quo" الراهنة واهتزاز منظومة أستانة (تفاهمات روسية تركية إيرانية حول الأزمة السورية) واندلاع تصعيد في أكثر من جبهة، كشمال سوريا وإدلب تحديداً التي لا تزال تخضع لسيطرة بعض الجماعات المسلحة المدعومة من أنقرة.
أما جنوب سوريا، فمن الممكن أن تتأثر تفاهمات موسكو وتل أبيب تعبيراً عن تباعد مواقف الجانبين من الأزمة الأوكرانية، والذي تجلى في استدعاء الخارجية الروسية للسفير الإسرائيلي المقيم لديها، أليكس بن تسفي، احتجاجاً على تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، التي وصف فيها ممارسات روسيا في أوكرانيا بـ"جرائم حرب".
وهذا التصريح الإسرائيلي والاستدعاء الروسي في أبريل 2022 قوّض ما سعت إليه تل أبيب في أسابيع الأزمة الأولى من تجنب الانحياز الصريح إلى الطرف الأوكراني، حفاظاً على حرية عمل طائراتها في المجال الجوي السوري.
وإذا ما أرادت روسيا تخطي التفاهمات المبرمة مع تركيا وإسرائيل، إعادة تحريك الملف السوري، فإن دولاً ستواجه أزمة أمنية، كالأردن التي رسّخت تفاهمات مع موسكو حول الجنوب السوري. بينما يتجاوز تفاقم الأوضاع في الشمال السوري، الإضرار بالمصالح التركية بإطلاق موجة لجوء جديدة نحو أوروبا الساعية أصلاً لاستيعاب اللجوء الأوكراني.
في المقابل، قد تنظر الدبلوماسية التركية إلى الأزمة الأوكرانية على أنها "فرصة" تعيد بها ضبط سياستها الخارجية نحو أوروبا والغرب، عبر تصفير الخلافات بما يشابه العقد الأول من هذا القرن الذي شهد وصول العدالة والتنمية إلى الحكم وتحقيق قفزة تنموية في عموم البلاد.
ختاماً؛ ستحافظ أنقرة قدر المستطاع على دورها كوسيط في الأزمة الأوكرانية وإن أظهرت جنوحاً مضاد لموسكو، فحجم التفاعلات البينية أكبر من أن التضحّية به، كخط الغاز الروسي المار عبر تركيا "ترك ستريم"، والتبادلات التجارية الآخذة بالنمو حيث بلغت الصادرات التركية إلى روسيا عام 2020 ما يعادل 4.5 مليار دولار، فيما بلغت الواردات الروسية إليها 15.9 مليار دولار، بحسب منصة "Trading Economics".
ويبقى من الضروري رصد تطور العلاقات التركية الروسية، لما لها من دور كبير في تحديد ملامح مناطق تحتل مكانة جيوسياسية هامة في السياسة الدولية، كأوراسيا والبحر الأسود والشرق الأوسط الكبير.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: