حتى وقت قريب كان تنظيم القاعدة -الذي أسسه أسامة بن لادن وعدد من "الإسلاميين" العرب في أفغانستان عام 1988 - التيار المتطرف المهيمن على ما بات يعرف في الأوساط الإعلامية بـ "الحركة الجهادية العالمية"، والملهم في الوقت ذاته لبقية التيارات المتطرفة الأخرى على اختلاف جغرافياتها المحلية والإقليمية والعالمية، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي أعلن التنظيم مسؤوليته عن تنفيذها.
وقبل ذلك بقليل كانت "القاعدة" قد حولت انتباهها نحو الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، والذي أخذ نحو الانتشار في أعقاب حرب الخليج الثانية ما بين (1990 - 1992)، ومع انتقال القوات الأمريكية إلى الصومال، زحفت "القاعدة" إلى هناك أيضًا، وتمكنت بسرعة قياسية، من السيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي الصومالية. وتجلى ذلك أيضاً بوضوح بعد أن نفذت أولى عملياتها ضد الأهداف الأمريكية جنوب اليمن بقصف فندقين كانت تستخدمهما القوات الأمريكية، وتكمن أهمية الحدث في تحويل "القاعدة" لتركيزها من التدريب إلى نشر عملياتها ونفوذها ومعرفتها إلى جبهات متطرفة مختلفة في جميع أنحاء العالم، ما دفع بـ "القاعدة" بعد ذلك لإصدار وثيقتها الشهيرة المعنونة ب "إعلان الجبهة الإسلامية العالمية" في عام 1996، والتي كانت بمثابة المرجعية الأيديولوجيّة الرئيسية لإيجاد المسوغ الشرعي والحركي لإعلان "القتال" ضد القوات الأمريكية والمدنيين الأمريكيين في جميع أنحاء العالم.
أعقب ذلك جملة من التحولات المهمة شهدها تنظيم "القاعدة"، خاصة مع التدخل الأمريكي في العراق عام 2003، وهي تحولات دفعت التنظيم إلى تطوير استراتيجياته وتنويع صوره التنظيمية، لتأخذ أشكالاً مغايرة وغير تقليدية كامتداد للتنظيم أو معبرة عنه، سواء كانت تابعة له بشكل مركزي ومباشر أو مرتبطة به بطريقة لامركزية وغير مباشرة، لكن التنظيم في الوقت ذاته ظل محافظًا على الصلة الفكرية الأيديولوجية بشكل رئيس، وذلك كاستجابة للتحديات التي واجهتها "القاعدة" في ظل الوقائع السياسية الجديدة.
ونجحت "القاعدة" بعد ذلك في تجنيد مجموعات محلية من خلال المزج بين الأهداف المحلية والعالمية لا سيما في سوريا، خاصة مع اندلاع الأزمة السورية، والتي حملت معها الكثير من التداعيات والنتائج المهمة، كان أبرزها تناسل الجماعات المتطرفة وتنوع مظاهرها، وإحكام سيطرتها على الأرض، ما أتاح فرصة كبرى لتلك الجماعات، مثل "جبهة النصرة" سابقاً لإيجاد موطئ قدم لها في قلب الشرق الأوسط، بعد أن وظفت أجواء الفوضى الناجمة عن تدهور الأوضاع السياسية والأمنية لصالحها، بشكل أدى إلى تعزيز دور تلك الجماعات المنادية بإقامة "حكم ديني" على حساب الحركات المُسلحة الأخرى ذات الطابع العلماني.
وقد كان من أبرز هذه الجماعات وأكثرها خطورة "جماعة الجولاني" التي عايشت أطوارًا عدة منذ بدء الأزمة السورية، ويعد (أبو محمد الجولاني) من أكثر المتطرفين السوريين المثيرين للجدل في تاريخها المعاصر، نظرًا لما شهدته سياساته البراغماتية من تأرجح في ولائه التنظيمي ما بين "القاعدة" و "داعش" (2013 و2016)، واتجاهه بعد ذلك صوب التخلي عن تلك الولاءات، ثم بلورة جماعته بشكل مستقل عنهما، بتصورات براغماتية ومحددات سياسية جديدة، مع المحافظة على النسق الأيديولوجي والهدف الاستراتيجي الذي يوحدهم جميعًا.
وهنا برزت مرحلة جديدة في مسار الحركات التكفيرية المعولمة وتحولاتها، ضعفت معها تأثيرات تنظيم "القاعدة" من الناحية التنظيمية، وبقيت آثارها الفكرية في نطاق ضيق، خاصة مع ما أقدم عليه الجولاني في يوليو 2016 من فك ارتباطه بالتنظيم، إذ كانت "القاعدة" تمنّي نفسها بأنه فك الارتباط قد يصب في صالحها، وتمثل ذلك في مصادقة القيادة المركزية للتنظيم عليه، بما في ذلك الرجل الثالث في تلك القيادة (أبو الخير المصري)، إلا أنّ الجولاني كان يضمر في نفسه شيئًا مختلفًا، اتضحت معالمه في السنوات الأربع التالية، بعد انتقال جماعته إلى تشكيل جديد تحت مسمى "هيئة تحرير الشام"، ثم فرض شروط صارمة على من تبقى من الموالين لتنظيم "القاعدة" ممن رفضوا قطع علاقاتهم بالتنظيم وأعادوا تجميع صفوفهم في كيان جديد يسمى "حراس الدين".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عمل الجولاني على تحجيم أنشطة "حراس الدين" والاستيلاء على أسلحتها الثقيلة واعتقال عناصرها وقادتها البارزين، ثم أنشأ حكومة أطلق عليها "حكومة الإنقاذ" مهمتها تيسير الشؤون المدنية في المناطق الخاضعة لسيطرته، خاصة بعد تراجع قوة تنظيم "داعش" في معقلَيه الأساسيَّين، سوريا والعراق، ما دفع بأن تصبح "هيئة تحرير الشام" هي الأقوى بين الفصائل المتطرفة والمُسلحة في سوريا، بعد أن باتت تسيطر على ما يقرب من نصف محافظة إدلب، آخر معقل للفصائل والقوى المناهضة المتبقية في سوريا.
لكنّ إعلان الجولاني عن قطع صلته بالحركات التكفيرية المعولمة، خاصة تنظيم "القاعدة" لم يكن أمراً يسيراً، إذ عايشت "هيئة تحرير الشام" ما بين عامي (2017- 2018) عديدًا من المشكلات والتحديات في معاقلها في الشمال السوري، بدءًا من الصدام مع "القاعدة"، مرورًا بالمواجهة مع الجيش السوري المدعوم من إيران وروسيا، فضلًا عن تكبد خسائر واسعة النطاق في الأراضي الواقعة تحت سيطرة "الهيئة"، والاغتيالات لقادة بارزين فيها، وحدوث انشقاقات كبيرة في صفوفها، وانتهاءً بالصراعات والمواجهات البينية مع بقية الجماعات المتطرفة الأخرى، بالإضافة إلى تصنيف "هيئة تحرير الشام" من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة وغيرهما كمنظمة إرهابية أجنبية، أعقبه إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عن مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى تحديد هوية الجولاني أو مكانه، واستشهدت الوزارة بـما أسمته بـ"الرؤية الطائفية العنيفة" لجماعته، وأكدت أن الهدف النهائي له يتمثل في تأسيس دولة تقوم على الشريعة الإسلامية في جميع أنحاء سوريا، ووسيلته في ذلك الهجمات الانتحارية التي قتلت عديدًا من المدنيين السوريين الأبرياء.
وتبقى الإشكالية الكبرى لدى الجولاني وهيئته، والمتعلقة بالطموحات السياسية والعسكرية التي تتجاوز فكرة قيادة "مجموعة متطرفة"، وهي إشكالية تطرح النوع نفسه من المعضلات السياسية التي أزعجت الحكومات الغربية تجاه الجماعات المشابهة الأخرى التي تمارس السياسة، مثل حركتي "حماس"، و"طالبان".
وفي هذا السياق، ومع التحولات التي عايشها الجولاني وهيئته، حدث متغير جديد بين الغرب والجولاني، أفصح عنه "جيمس جيفري" المبعوث الأمريكي السابق للملف السوري حين أشار في أغسطس 2018 إلى أن واشنطن أوقفت استهداف الجولاني مباشرة، وهو ما يفسر مناورات الجولاني على مدى السنوات القليلة الماضية، والتي اتسمت بالبراغماتية السياسية، فيما بدا وكأنه اتجاه جديد وطور مختلف يمزج بين الخطاب الديني المتطرف والعمل السياسي، على غرار تجارب أخرى راهنة أبرزها حركة طالبان في أفغانستان، لذا يمكن النظر إلى تلك التحولات للحالة "السلفية التكفيرية" في الساحة السورية على أنها واحدة من أهم مؤشرات التغير داخل المعسكر "السلفي التكفيري" الأوسع.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: