عند تصاعد التوتر السياسي والأمني في إقليم ما أو منطقة معينة من العالم، تتوجه الأنظار إليها بسرعة وتبدأ بعض التحليلات بتقديم الافتراضات حول أن هذه المنطقة المعنية ستكون في المرحلة المقبلة بؤرة لاحتدام الصراع والتنافس بين القوى العالمية والإقليمية، وأنها ستكتسب أهمية بالنسبة للقوى الدولية على حساب المناطق الأخرى، وهذا ما نراه اليوم أو بالأحرى منذ عدة سنوات تجاه منطقة القرن الأفريقي التي تضم كلاً من إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي، حيث إن ازدياد وتيرة الاهتمام بها وتردُّد الأخبار عنها عبر الوسائل الإعلامية بشكل أكثر من أي وقت مضى، يوحي بأنها ستكون حافلة بالتقاطعات المصلحية في الفترة القادمة.
إن هذا التوقع صحيح، لكن لا يجب التضخيم منه أو التركيز على الحديث عن أن الشرق الأوسط نزل إلى الدرجة الثانية أمام القرن الأفريقي أو حتى أمام الشرق الأقصى، فالاهتمام الدولي من قبل واشنطن وبروكسل وبكين وطوكيو وموسكو وغيرها من العواصم المركزية، لا يقتصر فقط على المناطق المصابة بالحمى العسكرية، كما أننا لا نعيش في القرن الثامن عشر لكي تتفوق منطقة على أخرى في سلم الأولويات العالمية على أساس الاحتراب العسكري، فالعولمة الاقتصادية قامت بتنحية هذا النمط البدائي من التنافس الاقتصادي والسياسي، وأصبح التنافس بين القوى العظمى في الوقت الحالي يدور حول أنماط ومجالات أخرى مثل مجال البحث عن الموارد الخام وأسواق تصريف البضائع والمواقع الاستراتيجية بما فيها من موانئ وممرات تجارية، بالإضافة إلى التنافس التكنولوجي وغيره، كل هذا يتم منذ عقود (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية) على كامل الجغرافيا العالمية، التي تتضمن مناطق عالية التصعيد وأخرى متوسطة ومنخفضة التصعيد، في إطار إعادة تموضع مستمر للقوى العسكرية والدبلوماسية وحتى الأيديولوجية التي تمارسها الأقطاب العالمية التقليدية والجديدة.
وبالعودة إلى القرن الأفريقي، فهو إقليم استراتيجي يُطل على خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر، ويمر عبر وأمام موانئ هذا الإقليم نحو 3.8 مليون برميل نفط يومياً وأكثر من 50 مليون طن من المنتجات الزراعية، كما أن هذه المنطقة بمفهومها الجغرافي الأوسع (التي تضم أوغندا وكينيا وجنوب السودان والسودان) تُعتبر قريبة من منطقة البحيرات العظمى التي تعد أغنى مناطق أفريقيا بالمياه العذبة ومنبعاً لنهر النيل وهي أيضاً غنية بالمواد الخام والثروات الطبيعية.
إثيوبيا وتحديات النفوذ الإقليمي
تمتلك إثيوبيا حدوداً مع ست دول هي إريتريا من الشمال، وجيبوتي والصومال من الشرق، والسودان وجنوب السودان وكينيا من جهة الغرب والجنوب الغربي، لكنها لا تمتلك أي منفذ بحري، وبعبارة أخرى لا تستفيد أديس أبابا من كونها جزءاً من منطقة القرن الأفريقي وما يتسم به من عمق استراتيجي وذلك بسبب الحواجز الطبيعية والحدود السياسية المحيطة بها، وهذا ما يجعلها مضطرة إلى إيجاد صيغة ما مع جيرانها من جهة الشرق لبحث إمكانية الوصول إلى حدودها البحرية اقتصادياً من خلال المشاركة في إدارة الموانئ أو عسكرياً من خلال إنشاء قواعد عسكرية.
وتُبين السنوات الخمس الأخيرة أن إثيوبيا مرّت - وما تزال تمر نسبياً - بحالة من الاحتقان السياسي والاجتماعي الداخلي، الذي غيّر من حجم نفوذها الإقليمي، أو - بعبارة أدق - دفع النخبة السياسية الجديدة في أديس أبابا باتجاه السعي إلى تقديم صورة واضحة عن وجود مشروع إقليمي إثيوبي يستند بشكل رئيسي على إنهاء حالة عدم الانسجام الداخلي التي يفرضها الواقع الطائفي والإثني والتاريخ السياسي.
استلم رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، السلطة في مارس 2018 في أعقاب موجة احتجاجية جارفة تخللتها أحداث عنف أدت إلى استقالة الرئيس السابق، هايلي مريام ديسالين. هذا وينتمي آبي إلى إثنية "الأورومو" التي جرى تهميشها على مدار عقود مع أنها تشكل نحو 34.5٪ من المجتمع الإثيوبي، وقد سارع الضغط الدولي في اختيار رئيس للوزراء بسبب حجم التشابك المصلحي الذي تحتضنه منطقة القرن الأفريقي والمخاوف من تهديد هذه المصالح.
وكان لوصول شخصية من هذه الإثنية تبعات سياسية نوعية على مدى نفوذ المسؤولين في إقليم تيغراي الذين تحكَّموا بمفاصل المشهد السياسي الإثيوبي لعقود، والذي تجلى - في صورته القصوى - في العمليات العسكرية التي بدأت مع نهاية العام الماضي بين الجيش الإثيوبي و"جبهة تحرير شعب تيغراي" بعدما حاول آبي أحمد دمج الائتلاف الحاكم "تحالف الجبهة الشعبية الإثيوبية" في إطار "حزب الازدهار" الذي قام بإنشائه حديثاً عام 2019، كما وقد رفض آبي نتائج الانتخابات في الإقليم المذكور التي عُقدت في سبتمبر 2020 والتي بينت فوزاً ساحقاً لجبهة التحرير آنذاك.
ساهمت هذه الأحداث في اهتزاز صورة آبي أحمد كرجل كان قد حصل على جائزة نوبل للسلام في أكتوبر 2019 على خلفية إطلاق الحريات العامة في البلاد والإفراج عن الصحفيين والمعتقلين السياسيين، والأهم من ذلك إعلان انتهاء حالة الحرب الإثيوبية الإريترية في يوليو 2018، بعد حرب استمرت لمدة 20 عاماً في ظل سيطرة التيغراي على الحكم بسبب خلاف على مناطق حدودية، وعليه، يتشارك الطرفان العداء لجبهة تحرير شعب تيغراي. وفي مارس 2021، اعترف آبي بمشاركة القوات الإريتيرية في القتال الدائر في الإقليم قبل أن تعلن وزارة الخارجية الإثيوبية عن انسحابها منه في 4 إبريل من العام الجاري، وذلك في أعقاب تقارير متزايدة عن ضلوع هذه القوات في انتهاكات لحقوق الإنسان، إذ أشارت وثائق وُصفت بالحكومية ونُشرت في 23 إبريل 2021، إلى أن القوات الإريتيرية استولت على المساعدات الإنسانية التي وصلت إلى الإقليم.
وبالرغم من ذلك، تبقى حاجة أديس أبابا لأريتريا قائمة حتى مع الإعلان عن انتهاء العمليات العسكرية، وذلك لأن الأزمة في إقليم تيغراي لم يتم حلها حتى اللحظة مع إصرار مسلحي "جبهة تحرير شعب تيغراي" على عدم ترك السلاح، كما أن الحكومة الإثيوبية مضطرة للتعامل – على الأقل أمام المجتمع الدولي - مع الأزمة الإنسانية التي خلّفتها الحرب، حيث لجأ عشرات الآلاف من سكان إقليم تيغراي إلى دول الجوار.
ويمكن اعتبار وصول آبي أحمد إلى سدة الحكم بمثابة انتقال لميزان القوى في المجتمع الإثيوبي من إثنية إلى أخرى، من اليتغراي إلى الأمهرة والأورومو، والتوافق بين هاتين الأخيرتين ليس مضموناً مع الزمن، إلا أنه ما زال صامداً حتى الآن، وما يدل على ذلك هي التوقعات التي أشارت إلى أن حزب آبي أحمد سيفوز بالأغلبية البرلمانية في الانتخابات التي عُقدت في 21 يونيو الماضي، والتي استُثني منها إقليم تيغراي وإقليم أوغادين لعدم الاستقرار الأمني بحسب سلطات أديس أبابا، وهذا المزيج الأمني والإثني الاجتماعي ساهم في الدفع بشخص آبي إلى السلطة، ومدى تجانسه هو الضامن لبقاء سياساته الخارجية.
معضلة المنافذ المائية
تتشارك إثيوبيا وإريتريا - كما ذكرنا سابقاً - العداءَ لـ "جبهة تحرير شعب تيغراي"، وإلى جانب ذلك يرتبط الطرفان بعلاقات تجارية ودبلوماسية جرى إنشاؤها مؤخراً، وبالنسبة لأديس أبابا فإنها تسعى إلى الاستفادة من الموقع الإرتيري المميز على البحر الأحمر الذي يضم كلاً من ميناء "عصب" وميناء "مصوع" القريبين من مضيق باب المندب ومن شأن ذلك أن يساهم في أن تقدم إثيوبيا نفسها كقوة إقليمية تحظى بموقع هام في طرق الشحن والنقل البحرية، إضافة إلى تعزيز إمكانياتها في الدفاع عن أمنها خارج حدودها، ومع ذلك يبقى من المبكر الحديث عن توفر بحرية إثيوبية متطورة نظراً لحاجتها إلى موارد كبيرة واستثمارات ضخمة.
إن خيار الاستفادة العسكرية من الموانئ الإريترية مرهون بانخفاض وتيرة التوتر العسكري بين البلدين، لكن هناك خيارات أخرى بالنسبة لأديس أبابا، فهي تعتمد في وارداتها وصادراتها على ميناء جيبوتي بنسبة 95٪، كما وجرى افتتاح أول سكة حديد كهربائية في عام 2016 وهي تربط بين هذا الميناء وأديس أبابا وتمتد على مسافة تُقدَّر بـ 750 كم، وبتمويل صيني بنسبة 70٪. وفي نفس السياق كشفت صحيفة كابيتال الإثيوبية في ديسمبر 2019 عن تفاهمات مبدئية لإنشاء قاعدة عسكرية إثيوبية في جيبوتي التي تعج بالقواعد العسكرية الأمريكية، والفرنسية والصينية والإيطالية.
بعد استقلال إريتريا عن إثيوبيا بشكل نهائي عام 1993، جرى حل سلاح البحرية الإثيوبي في منتصف عام 1996، إلا أن حلم إعادة بناء وتشكيل هذا السلاح لم يفارق أذهان السياسيين الإثيوبيين، وهو ما ظهر في تعهد آبي أحمد في الخطاب الأول الذي تلا توليه للسلطة في عام 2018، وهذا ما عاد ليؤكد عليه المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، في 2 يونيو 2010، حيث أعلن عن عزم بلاده إنشاءَ قاعدة عسكرية في البحر الأحمر لمواجهة الوضع الأمني في المنطقة الذي وصفه بـ "المقلق".
باختصار، ينقسم اهتمام أديس أبابا في موانئ المنطقة إلى جانبين؛ الأول اقتصادي بحت مثل اهتمامها بميناء كيلينديني الكيني الواقع على المحيط الهندي، والثاني أمني اقتصادي ويتمثل في الموانئ الإريترية والصومالية والجيبوتية والسودانية. وقد توصلت إلى اتفاق مع السودان عام 2018 للاستحواذ على حصة في ميناء بورتسودان بعد لقاءات بين آبي أحمد والرئيس الأسبق عمر البشير، إلا أن مصير هذا الاتفاق ما يزال مجهولاً بعد عزل البشير وبعد انسجام الموقفين المصري والسوداني حول قضية سد النهضة الذي وصل إلى حد إجراء مناورات عسكرية مشتركة كان آخرها تلك التي اختُتمت في نهاية مايو الماضي تحت مسمى "حماة النيل"، والتي كانت رسالة غير مباشرة إلى إثيوبيا بوجود قوة ردع في حال تأثرت حصصهم المائية في إطار فشل عدة جولات من المفاوضات، ناهيك عن الخلاف الحدودي حول منطقة "الفشقة" ذات الأراضي الزراعية الخصبة، والتي توافق الجانبان بشأنها عام 2008 حيث اعترفت أديس أبابا بأنها أرض سودانية بينما سمحت الخرطوم ببقاء المزارعين الإثيوبيين العاملين في الأرض منذ عقود، إلا أن اشتباكات عسكرية بدأت بالنشوب منذ نوفمبر 2020 بين الجيش السوداني وجماعات إثيوبية مسلحة مدعومة من الجيش في ظل إنكار رسمي إثيوبي بإقدامه على افتعال مثل هذه الاشتباكات.
وفي سياق البحث عن موطئ قدم على البحر الأحمر، سعت إثيوبيا إلى استضافة والمشاركة في مفاوضات جرت بين حكومة مقديشو ونظيرتها في صوماليلاند - الدولة المعلنة من طرف واحد منذ 30 عاماً - للاتفاق على شكل العلاقة بين هذين الكيانين بعد سنوات من الاقتتال الداخلي ومعاناة السكان هناك من الأعمال الإرهابية التي تنفذها حركة الشباب، وجاءت المشاركة الإثيوبية قبل تولي آبي أحمد لسلطاته، لكنه ساهم في تكثيف دور بلاده في هذا الملف مستفيداً من صورته كعرّاب سلام في المنطقة، إلا أن تعثر المفاوضات بالأخص بعد اندلاع الأزمة الخليجية عام 2017 باعتبار أن دول الخليج إلى جانب تركيا كانت تساهم في رعاية هذه المفاوضات، دفعت أديس أبابا إلى انتهاج سياسة براغماتية عاجلة نتج عنها استملاك حصة في ميناء بربرة في أرض الصومال (صوماليلاند) بنسبة 19٪ مقابل 51٪ لصالح شركة موانئ دبي العالمية، و30٪ لحكومة أرض الصومال.
وتجدر الإشارة إلى أن الطموحات الإثيوبية للوصول إلى المنافذ المائية عبر جيبوتي أو الصومال بالشكل العسكري أو الاقتصادي، يواجهه حراك دبلوماسي نشط تقوده مصر على المستوى الدولي والأفريقي، فعلى سبيل المثال عقدت الأخيرة اتفاقيات عسكرية لتبادل المعلومات والتعاون الأمني مع كل من أوغندا وبوروندي اللتين تُعتبران من دول حوض النيل الإحدى عشرة، حتى أن المصالح الإثيوبية - المذكورة سابقاً - في جيبوتي بالإضافة إلى الأخبار التي تحدثت في عام 2018 عن نية أديس أبابا الاستثمارَ في ميناء جيبوتي، من المستبعد أن تتم بالمرونة التي تتخيلها دون أن تقوم القاهرة بمنح جزء من هذه المرونة، وهذا ما دلَّت عليه زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى جيبوتي في 27 مايو الماضي لكسب الموقف هناك حول الحقوق المصرية والسودانية في مياه النيل، وسبقت الزيارة إرسال القاهرة لكميات كبيرة من المساعدات الغذائية والطبية إليها، وتم الرد على هذه الزيارة بزيارة قام بها رئيس هيئة الأركان الإثيوبية، برهانو جولا، في 14 يونيو الماضي إلى جيبوتي للتركيز على الشراكة الاقتصادية والأمنية بين البلدين.
تبعث مصر الرسائلَ الدبلوماسية الهادئة والتصعيدية إلى أديس أبابا مفادها أن نفوذها يجب أن يُراعي مصالح اللاعبين الآخرين والتاريخيين في المنطقة، إلا أن الجانب الإثيوبي يبدو أنه لا يريد الاستجابة لهذه الرسائل، وهذا ما بينه تصريح آبي أحمد في 31 مايو 2021 الذي أشار فيه على نية بلاده بناءَ أكثر من 100 سد في الفترة القادمة، والملفت أن هذا التصريح جاء أثناء حضوره لمراسم إطلاق المرحلة الأولى من طريق أداما- أواش السريع الذي يهدف إلى تعزيز الربط الاقتصادي مع جيبوتي، ليرد الجانب المصري بالاستنكار الشديد واتهام إثيوبيا بضرب قواعد القانون الدولي بعرض الحائط.
وبناء على كل ما سبق، يمكننا القول بأن إثيوبيا تعاني من تحدي جيوسياسي يحول دون تحقيقها لطموحاتها بالتوسع في منطقة القرن الأفريقي بهدف الوصول إلى سواحل البحر الأحمر، إلا أن السياسيين في أديس أبابا لا يقتنعون بهذه الفكرة، وما يؤمنون به هو أن العمق الاستراتيجي لبلادهم الذي انتهى في عام 1991 بعد بدء حرب استقلال إريتريا، يجب أن يعود بأي شكل، وهنا يمكن فهم مسألة الإصرار على استكمال أعمال بناء وملء سد النهضة بغض النظر عن مصالح دول المصب، كأداة ضغط لإتاحة المجال للتمدد الإثيوبي في القرن الأفريقي.
وتستفيد إثيوبيا من الاهتمام الاستثماري الصيني بها في إطار مبادرة الحزام والطريق التي تعتبر سكة حديد أديس أبابا - جيبوتي من أهم إنجازاتها حتى الآن، ليس فقط فيما يتعلق بتوظيف رؤوس الأموال الصينية في حل المشكلات الاقتصادية المستعصية، وإنما أيضاً في إظهار خيارات السياسة الخارجية الإثيوبية أمام الغرب وبالأخص أمام الولايات المتحدة، وبالتالي دفعها إلى شكل من أشكال المفاضلة الاستراتيجية بين حلفائها في القرن الأفريقي ومنطقة شرق أفريقيا بشكل عام أو - هذا على الأقل - ما يعتقد صناع القرار الإثيوبيون بإمكانية حدوثه.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.