في نهاية كل جولة من الحروب الإسرائيلية ضد الفصائل المسلحة سواء أكانت حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة أم حزب الله في لبنان، تزداد التحليلات التي تهدف إلى دراسة وقائع المعركة وتحديد المنتصر والخاسر فيها، وغالباً ما تتبنى كل جهة رواية المنتصر وتؤكد على هزيمة الخصم، وبما أن الحرب الأخيرة في غزة قد دخلت مرحلة وقف إطلاق النار فجر الجمعة 21 مايو؛ فإن هذا المقال يوضح مدى صعوبة تحديد الجهة المنتصرة أو الخاسرة في المعركة.
عندما بدأت الفصائل الفلسطينية بإطلاق سلسلة من الهجمات الصاروخية على المدن والبلدات الإسرائيلية؛ لم يكن في حسبانها أن تصعيداً كبيراً سيحدث، ولم يجُل في خاطر قيادتها رهانات الربح والخسارة، بقدر ما كانت تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية بأدوات عسكرية وظّفت خلالها خطابها الأيديولوجي باتساق مع الأسباب الكامنة وراء الاضطرابات في الداخل الإسرائيلي والمطالب الشرعية للسكان المهجّرين في حي الشيخ جرّاح، وهي بذلك سجّلت انتصاراً سياسياً حتى قبل بدء الحرب. وتطبيقاً لمبدأ الردع، فقد ردّت إسرائيل بغارات جوية مكثّفة.
ويأتي كل ذلك ضمن نمط طويل وممتد من الصراع وهو ما يُعرف بالحرب الهجينة التي لا يوجد فيها تكافؤ بين طرفي الحرب: إسرائيل (دولة) وحماس (حركة مسلحة)، وبالتالي لا يُمكن تصور نتائجها وفقاً للمفاهيم التقليدية للحرب والصراع حيث إن هذه الحروب تركز على توظيف مجموعة من الأدوات السياسية والعسكرية في فترات الحرب والهدوء لتحقيق أهداف سياسية تتضح نتائجها على المدى البعيد وفقاً لتراكم نتائج ومخرجات الأحداث المرحلية كما في الحرب الأخيرة ضد غزة وحرب العام 2014 وما قبلها.
وهذا الصراع مستمر بين الطرفين ضمن عتبات متعددة، قد لا تصل جميعها إلى مستوى الحرب، وهذه العتبات قد تتضمن العمليات الخفية والسرية والتجهيزات التي يعكف عليها الطرفان في فترات الهدوء حيث نجد أن معارك الكر والفر بين الجانبين دائماً ما تكون مقيدة زمنياً ومكانياً ولا تمتد إلى حرب شاملة أو تتوسع أطرافها، ويتطلب التعمّق في فهمها التعامل معها بشكل دقيق باعتبارها سياقاً متكاملاً من المناورات التي تشكل الصورة الكاملة للاستراتيجية التي ينتهجها الطرفان ومدى تطورها.
خلال الموجة الأخيرة من الصراع، أظهرت الفصائل الفلسطينية قدرات صاروخية أكبر مقارنة بالعمليات العسكرية في العام 2014 التي أُطلق خلالها حوالي 4000 صاروخ خلال 50 يوماً، بالإضافة إلى أنها استخدمت هذه المرة صواريخ "كورنيت" المضادة للدروع في حادثين منفصلين في 9 و 12 مايو، وحتى مع استخدام إسرائيل للقوة النارية ومنظومة القبة الحديدية، إلا أنها فشلت في وقف إطلاق الصواريخ ضمن وتيرة ثابتة، ووفقاً للمتحدث باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، فقد صرّح خلال الحرب بأن الكتائب قادرة على الاستمرار في استهداف تل أبيب مدة 6 أشهر، إذ تشير التقديرات إلى أن حماس تمتلك حوالي 14 ألف صاروخ قصير أو طويل المدى.
ومع ذلك فلا يمكن اعتبار هذه الصواريخ سلاحاً استراتيجياً حتى بالنسبة لفصيل مسلّح - خاصة في ظل غياب القدرات التدميرية الكبيرة وعدم دقتها في إصابة أهدافها - بقدر ما يُمكن اعتبارها سلاحاً تكتيكياً مهماً جداً بالنسبة للفصائل الفلسطينية، فهي دائماً ما تُنهي الحرب برصيد شعبي أكبر لصالح هذه الفصائل، وتزيد من كلف الصراعات المترتبة على إسرائيل، وتُقوّض من مصداقية الحكومات الإسرائيلية أمام مواطنيها.
ومن المؤكد أن القبة الحديدية تقلل من حجم الخسائر المدنية والمالية عند نجاحها في اعتراض الصواريخ التي تُطلقها الفصائل الفلسطينية، ومع ذلك فقد وُجّهت انتقادات عدّة لهذه المنظومة بسبب تكاليفها الباهظة دون نجاحها في إنهاء التهديد القادم من تلك الصواريخ؛ خاصة إذا ما تم مقارنتها بصواريخ حماس، فإنه ستتضح سريعاً حقيقة عدم تكافؤ الكلف، إذ تُقدّر التقارير الاستخباراتية العسكرية أن تكلفة الصاروخ الواحد قصير المدى تتراوح بين 300 و800 دولار، وحتى مع ازدياد هذه التكلفة في الصواريخ بعيدة المدى إلا أنها تبقى قليلة نسبياً مقارنة بصواريخ القبة الحديدية التي تُقدَّر تكلفتها بما يتراوح بين 50 ألف – 100 ألف دولار.
وتصبح كلف هذه المنظومة أكثر إرهاقاً عند نجاح صواريخ الفصائل المسلّحة في تخطي الصواريخ الاعتراضية، لتؤثر بشكل مباشر وغير مباشر في الواقع المعيشي للفرد الإسرائيلي؛ فهي تلحق أضراراً اقتصادية واجتماعية ونفسية، وتتسبب في تعطل البنية التحتية للإنتاج والنقل لعدة أيام، حيث تُقدَّر الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية في الحرب الحالية بنحو 165 مليون دولار، إلى جانب الأضرار التي لحقت بالممتلكات والبنى التحتية والتي تُقدَّر بحوالي 30 مليون دولار حتى تاريخ 12 مايو 2021.
وعلى المنوال ذاته، يمكن قياس التكاليف الاقتصادية المترتبة على حركة حماس - التي هي مزيج من فصيل مسلّح يستخدم السلاح في مواجهة الجيش الإسرائيلي وحركة سياسية تستخدم الحكم والبيروقراطية لإدارة المناطق المختلفة من قطاع غزة منذ العام 2007؛ لكن مع غياب التقديرات الرسمية فإن الخسائر المباشرة وغير المباشرة التي تكبّدتها البنية الاقتصادية والأمنية في القطاع جرّاء الغارات الإسرائيلية تشتمل على الأضرار في البنية التحتية والوحدات السكنية، ووفقاً لوزارة الإسكان في غزة فإن هناك حوالي 16.800 وحدة سكنية متضررة منها حوالي 1800 غير صالحة للعيش، وألف مدمرة بالكامل، إلى جانب فقدان العديد لوظائفهم أو أماكن عملهم، وفقدان العائلات لمعيلهم أو رب الأسرة، وكلف الرعاية الصحية للجرحى والخدمات الاجتماعية، فضلاً عن الكلف الأمنية بعد أن تعرضت العديد من مقرات الشرطة التابعة لحماس في قطاع غزة إلى التدمير، وتوفر الكهرباء لمدة 3 – 4 ساعات فقط مقارنة بـ 12 ساعة قبل الحرب، بعد تعرض محطة الكهرباء الوحيدة في القطاع للقصف.
علاوة على ذلك، فإن هناك كلفاً كبيرة على البنية العسكرية لحماس، إذ وجّه الجيش الإسرائيلي ضربات دقيقة استهدفت مدينة الأنفاق التابعة لها تحت الأرض، والتي تؤدي دوراً هاماً في التصدي للتوغل البري للجيش الإسرائيلي، وفي حماية أفرادها وكبار قادتها تحت القصف. وقد تمكنت إسرائيل من رسم خريطة الأنفاق من خلال استخدامها لواحدة من أكثر الميزات فعالية في الحرب الهجينة والمتمثلة في القدرات الاستخباراتية؛ حيث تعكف حتى في أوقات التهدئة على جمع المعلومات من خلال الوسائل التكنولوجية، والمراقبة الجوية باستخدام الطائرات دون طيار التي تُحلّق باستمرار فوق القطاع.
من جهة أخرى؛ أبرز التصعيد الأخير في غزة مدى فعالية ودور الجهات الإقليمية سواء في مسارات السلام أو الصراع، فعلى سبيل المثال أظهرت الفصائل الفلسطينية تمتعها بقدرات عسكرية أكبر من السابق كما هو مذكور أعلاه، وهي في كثير منها محاكاة لتلك القدرات التي تمتلكها الجماعات المدعومة من إيران مثل حزب الله في لبنان وجماعة أنصار الله في اليمن، إذ تعتمد جميعها على الصواريخ بعيدة المدى، والطائرات دون طيار، والدعاية الحربية، لكن الملفت أن صواريخ "كورنيت" التي تم استخدامها في هذه الحرب هي ذاتها التي استخدمها حزب الله لصد توغل الجيش الإسرائيلي في حرب عام 2006. وعليه؛ ستكون البنية العسكرية والأمنية الإسرائيلية أمام تحدٍ في حال تمكنت حماس في المستقبل القريب من الحصول على تقنيات أكثر تقدماً وتطوراً مثل أنظمة الدفاع الجوية، خاصة في ظل المناكفة المستمرة بين طهران وتل أبيب.
وهناك أمثلة أخرى لدول تنشط في سياقات خفض التصعيد والسلم؛ وأبرزها الوساطة المصرية التي أعلنت عنها القاهرة لوقف إطلاق النار؛ بالإضافة إلى دول منخرطة في شبكة ممتدة من العلاقات بين الطرفين مثل الأردن وقطر، وتختلف أدوارها ما بين الوصول إلى حل سياسي وإعادة الإعمار وتمويل المجمتع المدني في قطاع غزة، وهي كما غيرها من دول الإقليم تؤثر وتتأثر بفترات الحرب والهدوء بين طرفي الصراع، وخلال هذه الجولة من الصراع نشطت هذه الدول دبلوماسياً بدعم من إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن.
وبناء على ما سبق، يمكن القول بأنه غالباً ما تنتهي جولات التصعيد بين إسرائيل وقطاع غزة كنتيجة لثلاثة عوامل مشتركة: تحقيق الأهداف المنشودة من التصعيد، وتلافي المزيد من الكلف والخسائر الاقتصادية أو العسكرية، والضغوط الدولية لوقف إطلاق النار؛ حيث يتم بعدها وقف إطلاق النار مع الحفاظ على الوضع الراهن دون هزيمة طرف أو زوال خطره على الأقل.
في هذه الجولة الأخيرة من الصراع، توصل الطرفان إلى قناعة بوقف إطلاق النار بعد 11 يوماً من القصف المتبادل، وهي مدة وجيزة مقارنة بحرب عام 2014 التي استمرت 50 يوماً. وقد يكون للضغط الدولي والمشاورات دور في وقف هذا القتال، ومع ذلك يبدو أن لارتفاع الكلف دوراً أيضاً، فقد بلغت خسائر إسرائيل الاقتصادية في حرب عام 2014 حوالي 0.3% من ناتجها المحلي الإجمالي مقارنة بحوالي 0.5% جراء الحرب الأخيرة، وكذلك ستكون الحال في قطاع غزة بالرغم من شح البيانات، إذ يُقدّر خبراء أن كلف إعادة الإعمار ستكون أعلى منها لتلك التي كانت نتيجة حرب عام 2014 حيث ستبلغ حوالي 8 مليار دولار مقارنة بـ 5.5 مليار دولار لعام 2014، وهذه الأرقام تزيد بلا شك من فرص الضغوط الدولية لوقف القتال والحد من الأعباء الاقتصادية الناتجة عنه.
وتوضح المقاربة السابقة أن المساعي المبذولة لتحديد الفائز والخاسر في حالات الحروب الهجينة ومن ضمنها الحروب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، لن تكون مثمرة نظراً لغياب الأدوات والمؤشرات الخاضعة للقياس والتي توصل إلى نتائج تتسم بالدقة، ففي مثل هذه الحروب يُحدَّد المنتصر والخاسر عبر تراكم الخسائر أو الانتصارات مع مرور الزمن - وليس خلال مرحلة محددة - سواء أكانت كبيرة أم ضئيلة، ولا يُلغي ذلك مدى أهمية الخسائر المترتبة على كلا الطرفين في الصراع الدائر بينهما، فهي تخلق حالة من الردع المتبادل وتُطيل أمدَ الهدوء تجنباً لتراكم الضرر نتيجة المعارك المستمرة أو المتقاربة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: