جاء تولي الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان منصبه في 6 يوليو 2024، وسط مشهد إيراني معقد مُحاط بالعديد من التحديات الداخلية والخارجية؛ في مقدمتها ما يتعلق بالفجوة ما بين توجهاته الإصلاحية وسيطرة المتشددين على مفاصل الدولة ومؤسساتها، والأزمة الاقتصادية المتفاقمة، بالإضافة إلى ظروف تولي الرئيس نفسها، خلفاً للرئيس السابق إبراهيم رئيسي الذي تُوفي في حادثة تحطم طائرة في 20 مايو 2024. إلى جانب التوترات الجيوسياسية المرافقة للحرب في قطاع غزة، والدور الإيراني في قيادة الساحات الثانوية المنخرطة بالتصعيد ضد إسرائيل، وهو ما يطرح تساؤلات حول برنامج الرئيس وتوجهاته وشكل سياساته المستقبلية.
الفوز الصعب والتحديات
أولى التحديات تتعلق بظروف ترشح الرئيس وفوزه الصعب -رغم أنه كان متوقعاً- حيث انتهت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في إيران دون تمكّن أي من المرشحين من تحقيق الأغلبية المطلقة من أصوات الناخبين، إذ حصل بزشكيان على حوالي 10 ملايين صوت، مُقابل حوالي 9.4 مليون صوت لمنافسه سعيد جليلي، قبل أن تتجه الانتخابات إلى الجولة الثانية والتي تمكن بزشيكان من حسمها. وفي الواقع يُنهي فوزه حالة الانسجام المؤقتة فكرياً وايديولوجياً التي اتسمت بها العلاقة بين مؤسسات الدولة خلال فترة إبراهيم رئيسي، واستقرار العلاقة للمرة الأولى نسبياً ما بين الرئيس والمُرشد، وكل ذلك يحيط مسار رئاسته بجملة من التحديات الذاتية والموضوعية، وذلك من حيث:
أولاً: الأصول التركية الأذرية للرئيس الإيراني، حيث كان المرشح الوحيد من غير الأصول الفارسية بين المرشحين الستة للانتخابات الرئاسية، وأثناء ترشحه تعرض لحملات من قبل منافسيه لأسباب عرقية، بالإضافة إلى أن تصويت المحافظات غير الفارسية له هو الذي حسم النتيجة لصالحه إلى حد كبير في الجولة الثانية من الانتخابات.
ثانياً: الأوضاع الداخلية الصعبة على المستوى الاقتصادي، مع ارتفاع الدين إلى 118 مليار دولار، وفقدان العملة الوطنية أكثر من 30% من قيمتها السوقية، وبقاء معدل التضخم أعلى من 40% حتى نهاية عام 2023، ونسبة البطالة العامة بين الشباب -الذين يشكّلون أكثر من نصف المجتمع الإيراني-والتي بلغت 15.4%، ووقوع 30% من الشعب الإيراني تحت خط الفقر.
ثالثاً: تطورات الحالة الإقليمية بعد اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023 والانخراط الإيراني المباشر وغير المباشر فيها، وما ترتب عليه من تداعيات على إيران، سواءً من جهة الهجمات الإسرائيلية المتواصلة على المصالح والشخصيات الإيرانية في الداخل والخارج، أو من جهة استهداف حلفاء إيران فيما يعرف باسم "محور المقاومة".
رابعاً: تعقيدات الحالة الدولية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق في عام 2018، وعدم حدوث أي تقدم في مسار مفاوضات ذلك البرنامج، واحتمالات عودة دونالد ترامب الى رئاسة الولايات المتحدة، وبالتالي ازدياد تلك التعقيدات بسبب مواقف ترامب المتشددة من برامج إيران التسليحية.
خامساً: التحديات الأمنية في الداخل الإيراني سواء من جهة التفوق المعلوماتي الإسرائيلي الذي مكنها من اغتيال إسماعيل هنية في منشأة تتبع الحرس الثوري في 31 يوليو 2024، وكذلك في تزايد نشاط المجموعات المسلحة المعارضة وتحديداً "جيش العدل" والذي تبنى في 23 أغسطس، عملية اغتال فيها نائب قائد "شرطة الأمن" في مدينة خاش بمحافظة بلوشستان، ويأتي ذلك الحدث بعد سلسلة من العمليات التي نفذتها الجماعة من بينها الاشتباك مع حرس الحدود في 4 أبريل، وكذلك تبنيه اغتيال ضابط برتبة عميد في الحرس الثوري في يناير.
ما مدى قدرة الرئيس على تحقيق برنامجه الانتخابي؟
طرح البرنامج الانتخابي للرئيس الإيراني عدة قضايا على المستويين الداخلي والخارجي، إذ ركز في القضايا الداخلية على تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وإجراء الإصلاحات الهيكلية، وقد جاء من ضمن وعوده الانتخابية؛ إنشاء نظام اقتصادي شفاف، قادر على مكافحة الفساد وجلب الاستثمارات وخلق فرص جديدة، وإجراء إصلاحات في النظام الصحي والتعليمي، وركز كذلك على أدوار المرأة الإيرانية وضرورة تمكينها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وإتاحة المساحة لتوسيع مشاركة الأقليات العرقية في الحكومة.
أما خارجياً؛ تبنى بزشكيان خطاباً يُركز على خفض التوترات الدولية واستعادة الدبلوماسية النشطة، والعمل على إحياء الاتفاق النووي مُقابل تخفيف العقوبات المفروضة على البلاد، وفي هذه النقطة يتناقض الرئيس الجديد كُلياً مع سابقه إبراهيم رئيسي الذي تبنى رؤية اقتصادية تعتمد على الاكتفاء الذاتي ومواءمة الاقتصاد في ظل العقوبات المفروضة على البلاد. وقد اختار الرئيس الإيراني الجديد كادره للسياسة الخارجية من الشخصيات المنفتحة على الحوار مع الغرب ومن المؤيدين لمفاوضات الاتفاق النووي، إذ كان وزير الخارجية عباس عراقجي، ضمن الفريق الإيراني المفاوض لمجموعة الدول الستة عند التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015 قبل أن ينحسب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في مايو 2018، بالإضافة إلى محمد جواد ظريف الذي يشغل منصب نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية، إذ كان له دور محوري في الاتفاق النووي عام 2015، ومن المؤيدين للمسار الدبلوماسي النشط منذ أن كان وزيراً للخارجية في ظل رئاسة حسن روحاني. وذلك يُشير إلى أن اتجاه الانفتاح على الغرب والمنطقة قد يُشكل السمة الرئيسية لفترة رئاسة بزشكيان من حيث السعي لخفض التوترات مع الولايات المتحدة واستعادة العلاقات مع أوروبا، ففي منتصف يوليو 2024 كتب الرئيس الإيراني لصحيفة "طهران تايمز" عن استعداده الدخول في "حوار بناء" مع الدول الأوروبية، ومن الواضح أن هذا المسار مدعوم من المرشد علي خامنئي، ففي أول لقاء له بالحكومة الإيرانية في 27 أغسطس 2024، صرح أنه "لا يوجد عائق أمام التعامل مع العدو عند اللزوم"، في إشارة على ما يبدو لتوجهات الرئيس باستئناف المفاوضات حول البرنامج النووي.
ومع ذلك، يبقى مسار بزشكيان محكوماً بعاملين رئيسيين: الأول نتائج الانتخابات الأمريكية، إذ يعني فوز الرئيس السابق دونالد ترامب العودة إلى العقوبات وسياسة "الضغوط القصوى"، والثاني بقدرة الحكومة على دفع البرلمان لمراجعة قانون "العمل الإستراتيجي لإلغاء العقوبات وحماية حقوق الشعب الإيراني" الذي أقره البرلمان مطلع العام 2020، ويفرض قيوداً على سلطة الحكومة في المفاوضات بشأن البرنامج النووي.
من جهة أخرى؛ فإن قُدرة الرئيس على تطبيق برنامجه تبقى محدودة، بالنظر إلى ما حققه الرؤساء الإصلاحيون السابقون له، منذ هاشمي رفسنجاني (1979-1989) وثُم محمد خاتمي (1997-2005)، ووصولاً إلى حسن روحاني (2013-2021)، إذ لم يتمكن أحدهم من إحداث تغيرات جوهرية في سياسات إيران الداخلية والخارجية، ومن المُرجح أن يواجه برنامج بزشكيان الرئاسي بقوة المحافظين المسيطرين على البرلمان ومجلس خبراء القيادة منذ فوزهم في الانتخابات التي جرت مارس 2024، وقد ظهرت الخلافات بين المعسكرين الإصلاحي والمحافظ سريعاً، إذ استقال محمد جواد ظريف من منصبه نائبا للرئيس بعد 11 يوم من تعيينه، احتجاجاً على تدخل التيار المحافظ في التشكيلة الحكومية للرئيس، قبل أن يتراجع عنها 27 أغسطس 2024.
يُضاف إلى ذلك؛ طبيعة النظام السياسي في إيران، والتي تحد من قُدرة الرئيس على السير بحرية لتطبيق توجهاته، فصحيح أن "رئاسة الجمهورية" تعتبر واحدة من المؤسسات المكلفة برسم سياسات الدولة، بوصفها أعلى سلطة سياسية في البلاد حسب الدستور، إلا أنها مقيدة بسلطات "المرشد الأعلى" للجمهورية في البلاد، وصاحب السلطات المطلقة للفصل في كل شؤون الدولة، بما يشمل السياسة النووية وقرارات الحرب، وهو المسؤول عن القوات المسلحة، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، ومجلس الشورى، والقضاء، ورئاسة الجمهورية. وبالإضافة إلى "المرشد الأعلى" و "رئاسة الجمهورية" تساهم مفاصل أخرى في رسم سياسات الدولة، وهي مرتبطة بدرجة أو بأخرى بالمرشد الأعلى، وعلى رأسها مجلس صيانة الدستور، ومجلس الشورى، ومجلس خبراء القيادة.
كما تواجه فترة رئاسة بزشكيان استحقاقاً هو الأهم في تاريخ إيران، يتعلق بالشخصية التي ستخلف المرشد الحالي علي خامنئي، وهي المسألة التي تتنافس بشأنها مختلف مؤسسات الحُكم وتزيد من الانقسامات داخل التيار المحافظ نفسه، فبعد وفاة إبراهيم رئيسي الذي كان يمثل الشخصية الأبرز لخلافة المرشد، تتنافس مؤسسات مثل الحرس الثوري وشخصيات محافظة سياسية ودينية على ترشيح أسماء جديدة وتصديرها، وكل ذلك سيحد من قدرة الرئيس على إحداث أي إصلاحات في النظام السياسي أو تغيرات فكرية وهيكلية.
وبالاستناد على كل ما سبق، يمكن استشراف السياسات المستقبلية للرئيس الإيراني في ثلاثة مستويات رئيسة، هي:
أولاً: مستوى السياسات الداخلية
إن تأثير الرئيس الجديد على السياسة الداخلية قد يقتصر على توسيع مساحة الحريات السياسية والاجتماعية، وإجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية التي تنعكس على قطاع الشباب، وكل ذلك بتسهيل من مفاصل الدولة التي ستكون المستفيد الأكبر من تلك الإصلاحات من أجل تخفيف حالة الاحتقان في المجتمع الإيراني، لكن تلك من غير الواضح قُدرة تلك الإصلاحات على تجاوز الحدود المسموح بها من قبل المرشد، والذي ركز في لقائه الأول من الحكومة على فرض قيود على الانترنت والسيطرة عليه.
ثانياً: مستوى السياسات الإقليمية
من المتوقع ألا تشهد تغيراً جذرياً بحكم ارتباطها بمستويات أخرى من مفاصل صنع القرار، حيث لا يملك الرئيس الجديد سوى خيار الاستمرار في تنفيذ تلك السياسات، خاصة فيما يتعلق بالسلوك الإيراني الإقليمي وهو ما عبرت عنه رسالة بزشكيان إلى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في يوليو 2024 والتي جدد فيها دعم إيران لـ "مقاومة شعوب المنطقة للنظام الصهيوني غير الشرعي"، وتشجيعها لحركات "المقاومة على الوقوف في وجه إسرائيل، ومنعها من مواصلة سياساتها العدوانية والإجرامية بحق الشعب الفلسطيني المضطهد ودول أخرى في المنطقة"، إلا أن مسار المصالحات الإيرانية العربية وتحديداً السعودية يُمكن أن يلقى دفعة قوية، من جهة الخطاب المعتدل للرئيس، وتركيزه على الاقتصاد القائم على الاستثمار، ومن المرجح أن تكون السعودية على قائمة الدول الأولى في زيارات الرئيس الخارجية القادمة.
ثالثاً: مستوى العلاقات الدولية
من المتوقع أن تشهد العلاقات الإيرانية الغربية انفراجاً نسبياً، وقد تشهد اختراقاً في الملف النووي في حالة فوز المرشحة الديمقراطية كميالا هاريس في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، والعكس صحيح في حالة فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: