عادت حركة وإمارة طالبان، بعد عقدين من سقوطها في أكتوبر سنة 2001، وأعلنت حكومتها المؤقتة في السابع من سبتمبر هذا العام، وهو الأمر الذي يجذب نظر العالم ومراقبيه ومشاهديه من جوانب عدة، نكتفي هنا بجانبين:
أولهما: قدرتها على بعث الأمل والثقة في العودة والتمكين من جديد، لغيرها من الحركات والجماعات الإسلامية في الشرق الأوسط والعالم، التي خسرت وسقطت معاقلها وتجاربها، في كل من سوريا والعراق ومصر وليبيا وتونس مؤخراً.
فقد حملت عودة طالبان – بعد عشرين عاما من السقوط- رسالة وأملا للجماعات الإرهابية، بإمكانية الانتصار والعودة مهما كانت قوة خصومها، بإصرارها على تحقيق حكمها والتمكين لمناطق سيطرتها، حتى النهاية كما فعلت طالبان، كما يعيد نموذج نجاحها، بعد سقوطها، التأكيد على العودة لتقديم العدو القريب على العدو البعيد، وليس استنزاف العدو البعيد كالولايات المتحدة وحلفائها عبر هجمات خاطفة - مهما كانت خسائرها- على أهدافه وحلفائه، بل أصبحت أولوياتها التمكين وتحقيق سيطرتها في مناطق الصراعات.
وثانيهما: التخوف من عدم التزام طالبان بتعهداتها للولايات المتحدة ودول جوارها، بعدم اتخاذ أفغانستان منطلقا لأي عمليات تستهدفهم، أو اتخاذها ملاذا آمنا للقاعدة كما كان في أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، أو لغيرها من الحركات الإرهابية، وهو ما نظن أن طالبان استوعبت درسه وتأثيره وتسعى لحكمها ونمطها المحلي، دون التورط في إيواء أي جماعات إرهابية تنطلق من أفغانستان لاستهداف أعدائها كما كان في السابق، بل هذا الالتزام الطالباني هو ما سهل لها تسلم السلطة بعد مفاوضات الدوحة في يناير سنة 2021.
لاحظنا أن أغلب الحركات والجماعات الإسلامية، على اختلاف درجاتها، باستثناء تنظيم داعش الإرهابي، رحبت بعودة طالبان وسارعت لتهنئتها، وبادر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتقديم الاستشارات لها منذ مفاوضات الدوحة ودعوة الدول العربية والمسلمة للاعتراف بها، ودعمها ومساندتها.
ولكن سنحاول هنا وفي هذه الورقة تتبع التأثير الأول الذي يظل احتمالا، وهو تأثير نجاح نموذج طالبان وعودته على المجموعات الإرهابية والمسلحة في ثلاثة دول عربية، يمكن وصف المجموعات الإرهابية في اثنتين منها وهما سوريا والعراق بالمجموعات الصلبة العنيفة، نظرا لعمق أزماتها، وحالة أخرى هي حالة الأردن التي تمثل نموذجا للدولة المستقرة فضلا عن كونها من أبرز حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
أولاً: طالبان والحالة العراقية:
لا شك أن انتصار طالبان وعودتها للحكم في أفغانستان يستنفر المجموعات الإرهابية في العراق، التي سبق لهم أن سيطروا على جزء كبير منها ووصلوا فيها إلى ما يسمى "التمكين"، ويشجعهم على المثابرة والصبر من أجل استعادة ما حققوه في السابق، فقد نجح تنظيم القاعدة في العراق في إقامة دولة له عام 2006 حتى قضت عليها مجالس الصحوات بمساعدة أمريكية، بعد أن فقدت سيطرتها على محافظة الأنبار عام 2007.
وفي 29 يونيو عام 2013 عاد تنظيم داعش الإرهابي بنمط جديد وطريقة تأثير جديدة، ليسيطر على ست محافظات عراقية، ويعلن عن "الخلافة" في سوريا والعراق عام 2014، وبايعتها بعد ذلك 25 مجموعة إرهابية، أو ولاية تابعة لها في مختلف أنحاء العالم في العام التالي. وهو ما استمر حتى عامي 2017 و2018 بخسارتها معاقلها في الرقة والموصل على الترتيب، ثم مقتل أبي بكر البغدادي عام 2019، وهي تحاول العودة الآن، ولا شك أن نجاح طالبان سيلهمها الثقة في إمكانية هذه العودة.
يبقى إلهام طالبان بالعودة يقينا للمجموعات الإرهابية المختلفة في العراق، خاصة مع اشتراكها في التركيز على فكرة التمكين وإقامة الدولة، (إنشاء إمارة إسلامية ومحلية في حال طالبان، أو خلافة دينية أممية كما في شأن داعش)، وبغض النظر عن خلافها الأيديولوجي، المتمثل في "السلفي الجهادي" عند تنظيم داعش و"الصوفي الديوبندي" عند طالبان، فما بين منهج الخلافة عند الأولى وإمارة المؤمنين عند الثانية، تتطلع قيادة داعش إلى الكيفية التي تمكنت من خلالها طالبان في دفع الجنود الأميركيين على مغادرة أفغانستان، وستستمر في إصرارها على العودة بناءً على تجربتها السابقة، عندما أخلى الجيش العراقي مواقعه وترك أسلحته أمام قوة صغيرة نسبياً من مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي الذي سيطر على حوالي 40% من الأراضي العراقية آنذاك.
وربما يزداد أمل داعش في العودة للعراق، الساحة الأكبر لعملياته منذ عام 2018 مع ما يبدو من ارتكازه لتربة خصبة من سياسات التدخل الإيراني ووجود الجماعات المسلحة الموالية له، فضلا عن استعداد إدارة بايدن في حال ازدياد التكلفة، ووجود إرهاصات وقرارات سابقة بتوجهها نحو الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من العراق، ما قد يفتح الباب متسعا من أجل عودة محتملة لداعش، خاصة مع استعادة نشاطه نسبيا في بعض المناطق العراقية والسورية.
وربما تحسبا لمثل هذه الخطوة، والتخوف من اشتداد قوة التنظيم مرة أخرى، صرح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في 29 أغسطس الماضي بأن فرنسا ستبقى تعهد في العراق حتى لو غادرته أمريكا، إذ أعلن أن الجيش الفرنسي سيواصل محاربة داعش، قائلا: " مهما كانت الخيارات التي يتخذها الأمريكيون، سنبقي على وجودنا في العراق لمحاربة الارهاب"، ولكن يبدو أن الوجود الفرنسي لن يكون كافيا لهذا الردع والمنع لعودة داعش، وهو ما أشار إليه الرئيس الفرنسي بقوله: "الوجود الفرنسي المستمر بعد الانسحاب الأمريكي إذا تم مع نهاية العام الحالي، قد لا يكون كافيا لردع عودة ظهور داعش"، مشيراً إلى وجود "آلاف المقاتلين الذين مايزالون في العراق وسوريا، حيث يواصلون شن هجمات التمرد ضد قوات الأمن والمدنيين".
ويمكن أن نضيف لما سبق أن العراق إذا استمر على سياساته غير الفاعلة وتفشي الفساد في مؤسساته الأمنية والعسكرية والاقتصادية، وإغفال التنمية كما كان عامي 2013 و2014، قد نشهد نشاطاً جديداً لعدد من التنظيمات الإرهابية على رأسها "داعش".
ثانياً: تأثير طالبان والمجموعات الإرهابية في سوريا:
شأنها، شأن كثير من مثيلاتها في المنطقة، رحبت التنظيمات الإرهابية في سوريا بعودة طالبان، وبادرت لتهنئتها، في تلق ملفت للنموذج المتسارع والملهم لعودتها في أفغانستان، باعثة الأمل في نفوس قادة وعناصر تلك التنظيمات بإمكانية نمذجته واستلهامه في مواقعها وأعطى الصبر والمعاناة شرعيته في النهاية للعودة بعد التقهقر أو السقوط.
وهي المعاني التي عبر عنها بوضوح بيان صادر عن "هيئة تحرير الشام"، حيث رحبت فيه بسيطرة حركة طالبان على أفغانستان، بعد 20 عاماً من هزيمتها على يد القوات الأميركية، واعتبرت أن هذا الحدث يدفعها لاستلهام الصمود والثبات من التجارب الحية على غرار طالبان.
وعليه فإن هيئة تحرير الشام، جبهة فتح الشام سابقا، وجبهة النصرة في البداية، تتوجه وتقترب من الاستراتيجية الطالبانية، بتركيزها على المحلية في سوريا، وهذا كان من أسباب خلافها مع تنظيم داعش الإرهابي، فضلا عن حرصها على إقامة علاقات مع الدول التي رعت مفاوضات طالبان، وكذلك ما توحي به خطاباته الجديدة الأكثر فكرية وسياسية وتقل فيها نزعتها السلفية والمتشددة التي كانت في البداية.
ويبدو أنه كما استوعبت طالبان الدرس والعبرة بعد عزلها وسقوطها وثم عودتها على مدار عشرين عاما، استوعبته معها كذلك جماعة كهيئة تحرير الشام، وجماعات أخرى، في ليبيا والعراق، حيث ليس العنف خيارا مؤبدا ومستمرا طوال الوقت، ولكنه ليس إلا خطوة نحو التفاوض والتجسير والاعتراف ووزنا من موازين القوى في العملية السياسية والتسوية فيما بعد.
في الواقع هناك تشابه كبير بين وضع طالبان ووضع هيئة تحرير الشام، خاصة مع أزمتها الذاتية أمام ضربات الطيران الروسي، وكذلك عودة سيطرة الحكومة السورية على قطاعات ومساحات واسعة، وتغيرت الظروف التي أصبحت معها الهيئة محصورة في بقعة جغرافية محدودة من إدلب، دون وضوح لدى المجتمع الدولي في كيفية التعامل معها، وهو أمر قد يكون مرهوناً بمدى نجاح اتفاق طالبان والولايات المتحدة ووفاء طالبان بالتزاماتها في بنوده.
وفي هذا الصدد تٌعد طالبان أكثر إلهاما على المستوى الميداني في بؤر الصراع العنيفة وفي سياقات الدول التي تعاني من صراعات مسلحة، والتي تمتلك فيها الجماعات والتنظيمات المسلحة القدرة على مواجهة وتحدي الحكومات، كما هو في العراق أو سوريا، ولكن تبدو عودتها رمزية وفكرية وعاطفية لدى غيرها من التنظيمات غير المسلحة أو سياقات التدين والمتدينين في المجال العام فقط.
ثالثاً: الحالة الأردنية.. احتمالات ضعيفة وترقب حذر
لا شك أن المشهد الأردني يختلف– كلياً - فيما يخص مسألة الإرهاب بشكل عام، مع قوة وانضباط أجهزته الأمنية ورسوخ مؤسسات الدولة فيه، وهو ما يتضح من مؤشر الإرهاب فيه، فقد خلا الأردن من أي عملية إرهابية عام 2020، وهذه هي المرة الأولى منذ عام 2011.
ووفق مؤشر الإرهاب العالمي احتل الأردن المرتبة 57 عالميا، ضمن المناطق منخفضة التهديد، متراجعا بمقدار 7 نقاط بعد أن كان ترتيبه رقم 64 عام 2019.
وبالنظر لتاريخ الإرهاب في الأردن، ومساره يلاحظ ندرته قياسا لكثير من دول المنطقة، فقد بلغ عدد "العمليات" الإرهابية الفعليّة في الأردن خلال الفترة الممتدة ما بين 1970 وحتى آخر إحصاء بتاريخ 31 ديسمبر لعام 2019 ما مجموعه 133 عملية إرهابية، نتج عنها ما مجموعه 156 حالة وفاة، و 300 جريح، بحسب مؤشر الإرهاب بالأردن لعام 2020 الصادر عن مركز شرفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب، وتبين المؤشرات الفرعّية للإرهاب؛ إن معدل حدوث عمليات إرهابية في الأردن؛ بحدها الأعلى هي عمليتان سنوياً.
وكان أخر العمليات الإرهابية التي شهدها الأردن في 14 فبراير 2019 والتي قُتل فيها ضابطين من الأجهزة الأمنية ومواطن أردني في انفجارين منفصلين وقعا في محافظة البلقاء الأردنية، وأظهرت التحقيقات لاحقا أنها ألغام مدفونة مطابقة لمواصفات متفجرات استخدمتها خلية إرهابية في شهر أغسطس 2018 في عملية "الفحيص" الإرهابية.
ولا يزال الخطاب المتشدد والسلفي الجهادي متواجداً في الداخل الأردني، بل إن بعضا من رموز الجيل الأول للسلفية الجهادية ومنظريها الكبار مثل أبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني وأبي مصعب الزرقاوي وخالد العازوي هم أردنيون، وكذلك بعض من أبرز ممثلي الجيل التالي لهم مثل سامي العريدي أبرز شرعيي تنظيم حراس الدين- القريب من القاعدة- في سوريا وغيرهم، ولكن لم تعد هناك تنظيمات جهادية عنيفة منذ تجربة تنظيم بيعة الإمام في التسعينيات، وإن وجدت خلايا داعشية تم القضاء عليها خلال السنوات القليلة الماضية.
لكن على ما يبدو أيضا أن التنظيمين (طالبان والقاعدة) رغم احتمالية فك الارتباط بينهما، لا تعتبر الأردن أولوية بالنسبة لهما، خاصة وأن الأردن ليس لديه حاضنة لهذه التنظيمات، ويقتصر وجودها على الساحة المحلية في أعداد من المحكومين بقضايا أمنية في السجون، وليس على شكل تنظيمات أو جماعات مسلحة كما هو الحال في الدول المجاورة، لكن المخاوف ستتحقق في حال أحكمت هذه التنظيمات سيطرتها واستولت على الحاكمية في بلدان أخرى لأنها قد تفكر بالتمدد لتحقيق مشروعها في إقامة الإمارة، وهو الأمر الذي نراه مستبعدا.
عبر هذه المقدمة، نفسر فرضيتنا أن نجاح طالبان لا يمثل خطرا كبيرا على الأردن رغم أنه شريك رئيس في استراتيجية التحالف الدولي ضد الإرهاب، وله مستشفى ميداني عسكري في الساحة الأفغانية لمساعدة الشعب الأفغاني.
من جانب آخر، يقف الأردن في هدوء حتى هذه اللحظة، سياسياً ودبلوماسياً، منتظرا ما سيتمخض عنه المشهد الأفغاني، ولا يقف عند حدود المراقبة فقط، بل يشارك المجتمع الدولي المراقبة الحثيثة لأداء حركة طالبان ويؤسس لنوع من الاشتباك والتفاعل مع استراتيجية الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في هذا السياق.
خاتمة وخلاصات:
إن نموذج عودة طالبان الجديد، دون تهويل ودون تهوين، يحمل بعدين رئيسين هما:
1- التفاوض والتخلي عن التجربة السابقة: بتجاوز تجربتها الماضية والأسباب التي أسقطتها قبل عشرين عاما، وتمثلت في إيواء قيادات القاعدة وتنظيمها، واتخاذها منطلقا لعمليات تستهدف الولايات المتحدة وحلفائها في الخارج، والتركيز على محلية طابعها وتطمين جوارها والعالم من حولها أنها لن تكرر التجربة السابقة، وأعلن المتحدث الرسمي باسم طالبان وعدد من ممثليها مؤخرا فك ارتباطها وتخليها عن القاعدة، وتسعى للتعاون والتحقق من جديد، وهو ما يدفع داعش لتكفيرها واتهامها بالردة والحرب عليها عبر فرعه وولايته في خراسان، وهذا النموذج قد يدفع تنظيمات إرهابية شبيهة للتعاطي معه عبر فصل جديد من عمليات القاعدة الاستنزافية أو داعش التي تسعى لدولة أممية وتجابه العالم وتكفر التفاوض معه.
2- توجه يلتمس خطى الإسلام السياسي: تتقارب طالبان على ما يبدو من توجهات الإسلام السياسي، ويبدو أن رعاية بعض الدول سياسيا وفكرياً، جعلها تدرك اليوم أنها يجب أن توسع المسافة بينها وبين التنظيمات الأكثر تشددا كالقاعدة، والاقتراب من نمط الميل للتفاوض وتجنب الصراع المسلح والسعي للقبول الدولي والإقليمي، ونرشح لذلك هيئة تحرير الشام في سوريا التي تسعى لذلك منذ فترة طويلة.
ونستخلص من ذلك أن يبقى تأثير طالبان ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه، واستقرت لها في أفغانستان لتحقيق نموذجها المحلي، تأثيرا عاطفيا فقط، لا ينزلق لتصدير الخطر ولا يحتضنه في بلاده، وهو ما قد يدفع بعض التنظيمات الإرهابية للاعتدال ويدفع بعضها الآخر للتشدد ضدها كداعش التي تعلن ذلك.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: