"من لا يتطور ينقرض" عبارة افتتح بها مقالي هذا للنظر في أسباب فشل الأيديولوجيات العربية في إحداث التغيير الذي تنشده مجتمعاتنا؛ حيث رفعت عقائد هذه الأيديولوجيات شعارات التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مختلف مجتمعاتنا، ولكن الذي حدث هو عكس ما نادت به؛ حين غرقت أغلب مجتمعاتنا، بعد عقود من الأطروحات العرمرمية حول التنمية، في أوحال الفقر والتطرف والحروب والأزمات التي حولت حياتها إلى جحيم لا يطاق، وتعطلت لغة العقل والحوار وتكلست الأفهام وساد منطق الرأي الواحد الذي ينفي الآخرين ويستبعدهم، حتى قال البعض “إذا أردت أن تحاور أيديولوجياً عربياً فعليك أن تثبت له أولاً وجود العالم”!
وقد كان لجميع الأيديولوجيات على الساحة العربية، من اشتراكية وقومية وإسلاموية وليبرالية، يد في ذلك السقوط المدوي لمشروع التنمية الشاملة؛ بعدما نالت أغلب هذه الأيديولوجيات حظها من السلطة والتمكين، ولكنها لم تحقق إلا القليل على صعيد تحسين ظروف وواقع مجتمعاتنا التي صدّقت شعاراتها في بادئ الأمر، لينكشف لها لاحقاً بأن هذه العقائد السياسية قد باعت مواطنيها الوهم، وسرقت منهم أحلامهم عندما تاجرت بها ومن ثم هشمتها في صراعات وحروب صفرية لا تبقي ولا تذر، ولا ترعى في أحد إلّا ولا ذمة!
وحتى لو افترضنا حسن النية والنبالة عند بعض سدنة ومريدي هذه الأيديولوجيات، إلا أن العبرة بالنتائج ومعرفة الأمور بخواتيمها؛ إذ دفعت مجتمعاتنا ضريبة فادحة نتيجة عقم طرائق التفكير عند هذه الأطروحات التي لم تزد الإنسان في منطقتنا إلا تعصباً وانغلاقاً؛ بحيث إنها فشلت في بناء شخصية الفرد ليكون سوياً من حيث المزاج والرؤية الفكرية تجاه الذات والعالم.
إذن، يكمن الخلل في بنية تفكير هذه التيارات المتأدلجة التي لم تمتلك برامج واقعية تمس مطالب وحاجات الناس في منطقتنا الموبوءة بالتخلف بكافة أشكاله؛ حيث اكتفت بوعود وشعارات لم تضعها موضع التنفيذ، بل انقلبت على مبادئها وشعاراتها حين أصبح أكبر همها الاستحواذ على السلطة والانشغال بكيفية الحفاظ عليها، والرغبة في الهيمنة على كل مفاصل المجتمع.
وفي رأيي فإن هذا أحد الأسباب الحقيقية التي أدت إلى أفول نجم هذه الأيديولوجيات ومشاريعها الحالمة التي استنزفت طاقات وخيرات مجتمعاتنا، هي ظاهرة العولمة التي فتحت الأبواب على كل الجهات، واكتسحت بقوتها أغلب البنى التقليدية للمجتمعات المحلية، الأمر الذي أدى إلى زيادة فقدان الثقة في الأيديولوجيات الصغرى واضمحلال تأثيرها تحت ضربات العولمة الموجعة، فانهارت وتهاوت شعارات وبرامج الأيديولوجيات العربية الواحدة تلو الأخرى كأحجار الدومينو.
كذلك أحدثت الثورة التكنولوجية تحولاً هائلاً في حياة البشرية من خلال مساهمتها في سهولة تداول الأفكار والمعلومات، مما حرر وعي الأفراد في منطقتنا وجعلهم ينبذون طوباوية الأيديولوجيا بمختلف طبعاتها وألوانها. واتفق مع بعض المفكرين الذين شككوا في أهلية الكثير ممن انتسب لهذه الأيديولوجيات وجعلهم يتساءلون هل حقاً كان عندنا رجال وقادة أيديولوجيات؟ أو عقائديون ذوو وعي بما يطرحونه على الناس؟
ويبدو لي بأن عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي قد أصاب كبد الحقيقة عندما أرجع بعض مظاهر القسوة والتعصب التي سادت المجتمع العراقي الحديث – وهذا ينطبق على العديد من مجتمعاتنا- بما فيه النخبة المؤدلجة أو السياسية إلى أنه كان خليطاً من ثقافة “المتريفين” وقيم البداوة البعيدة عن أجواء المدينة وتنظيماتها وفعالياتها التي أنتجتها المدنية الحديثة، مما أفرز عنفاً دموياً بين ساسته من جهة وبين مجتمعهم من جهة ثانية.
وهذا يجعلنا هنا نطرح السؤال التالي: هل سقطت الأيديولوجيا حقاً أم أنها ما زالت تحرك الأفراد والمجتمعات في منطقتنا؟
والحق أن أغلب الأيديولوجيات قد أفل نجمها وبريقها باستثناء الأيديولوجيا الإسلاموية التي انتعشت في بعض مجتمعاتنا بسبب توافر عوامل موضوعية خدمتها؛ منها استغلال الدين كأداة لتحريض الناس على الحكومات، أو كمشروع للتكسب من خلال اللعب بالدين والزج به في ملاعب الدنيا وذلك للاستيلاء على السلطة؛ إلا أنه ورغم هذا الانتعاش الظاهري – حاليا- فإن مآلها لم يكن أفضل من أخواتها التي زعمت الحديث باسم العلمنة، حيث أدخل الإسلاميون مجتمعاتنا في سوق المزايدات الأليمة والدولية وزجوا بها في جحيم الحروب الأهلية التي أهلكت الحرث والنسل، وهو ما ساهم في تراجع بريق أيديولوجيتهم التي جذبت بعضاً من شبابنا الذين انبهروا بأطروحاتها الخلاصية وشعاراتها التقَوية، خاصة بعد أن اختطفت الدين وادعت الحديث بلسانه؛ ولكن وبعد تجاربها وممارساتها الدموية التي شاهدها القاصي والداني، تراجع وهجها وأفل نجمها الذي شيّدته على أنقاض ودمار مجتمعاتها.
ما العمل؟
أرى جلياً أنه لا سبيل للأحزاب في منطقتنا العربية، وخاصة تلك التي تنتمي في أطروحاتها إلى عالم الأيديولوجيا، إلا بأن تراجع مسيرتها السابقة وتتخلى عن الشعارات الرنانة التي أطاحت بمجتمعاتنا؛ من خلال وضع برامج واقعية ومفصّلة ومرحلية تلبي حاجات الناس الاقتصادية والاجتماعية، مع ضرورة التخلّي عن الأحلام الأيديولوجية والمشاريع غير الواقعية. كما يتوجب عليها إعادة النظر في مسألة امتلاك الحقيقة المطلقة؛ من خلال ترسيخ مفاهيم: التعدّدية الفكرية، والتسامح، واحترام الرأي المخالف ونسبية الحقيقة.
إنّ التخلي عن الأيديولوجيا – أو على الأقل عن الجوانب المتحجرة فيها – هو ضرورة واقعية ملحة، وذلك بسبب حجم العطب الذي أحدثته في بنية مجتمعاتنا وبالتالي تقع عليها مسؤولية تاريخية في أن تتجاوز فكرها الماضوي، الذي أثبت الواقع أنه لا يخدم مصالح الناس وتطلعاتهم في العيش بحرية ورضا وكرامة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: