تمتد العلاقات الأردنية الأمريكية لأكثر من سبعين عاماً، ومرّت بكثير من الضغوطات والاختبارات وحالات التوتر، لكن ذلك لم يغير من حقيقة أهمية الأردن بالنسبة لواشنطن؛ كدولة محورية في إقليم يعج بالنزاعات العسكرية والاستقطابات السياسية، بالرغم من أن الشرق الأوسط كإقليم يتغير تقييم أهميته وفقاً لتغير الإدارة الأمريكية وتوجهات السياسة الخارجية.
لطالما كانت العلاقات الأمريكية الأردنية مستقرة ومبنية على تحالف استراتيجي حلَّ محل التحالف مع المملكة المتحدة، والذي تراجع بعد الحرب العالمية الثانية، كما وجد الأردن نفسه خلال ما يُعرف بالحرب الباردة إلى جانب المعسكر الغربي، حيث كانت علاقاته مع دول المنظومة الشرقية في حدودها الدنيا، ليتلو ذلك توافق ضمني طويل المدى تجاه أغلب القضايا الإقليمية والدولية، وإن حدث اختلاف ما على بعض التفصيلات، فإن ذلك يبقى بمنأى عن القطيعة السياسية أو الخلاف المعلن.
ترامب واختلال العلاقة البينية
مع وصول الرئيس السابق، دونالد ترامب، إلى الحكم في مطلع عام 2017، تأهب حلفاء وخصوم الولايات المتحدة على السواء للتغيرات التي شهدتها واشنطن، حيث لفتت شعارات الحملة الانتخابية لترامب الأنظارَ مبكراً لما هو آت. وبالفعل، كانت فترته الرئاسية حافلة بالأحداث والتحولات النوعية التي غيّرت الشكل المعتاد للسياسة الخارجية للإدارات الأمريكية السابقة، والتي كانت تسير على خط مألوف لشركاء واشنطن ومن ضمنهم الأردن.
أدرك المسؤولون الأردنيون مبكراً أنه يجب ابتكار نوع معين من التعامل مع الإدارة الجديدة (إدارة ترامب)، من حيث الإعلان عن مواقف تعبر عن وجهة النظر الأردنية لكن لا تعارض بشكل صريح مواقف واشنطن. والسؤال هنا: لماذا تبلور هذا الإدراك بالأساس؟
اعتبر صناع القرار في الأردن لعقود طويلة أن بلادهم طرف مهم في تعامل المجتمع الدولي مع القضية الفلسطينية، ومع ما تحتويه من محطات توتر وصراع وهدوء وتفاهمات بين الأطراف المعنية، ويمكن إرجاع ذلك إلى الموقع الجغرافي للأردن، وإلى تركيبته الديمغرافية وتاريخه السياسي المتداخل إلى حد كبير مع هذه القضية المعقدة، ناهيك عن أسبقية الأردن في بناء علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، أنهت عقوداً من الحرب من خلال معاهدة "وادي عربة" في 1994، الأمر الذي منح عمّان دوراً سياسياً أوسع في المنطقة، لكن هناك من يرى أن هذا الدور قد انحسر قليلاً بعد توقيع ما يُعرف بـ "اتفاقيات ابراهام" التي عُقدت بين تل أبيب وعواصم خليجية وعربية، وحظيت بدعم قوي من قبل إدارة ترامب، في حين يرى آخرون أنه يمكن للأردن تقديم المزيد على المستوى الإقليمي بخصوص مستقبل التحالفات الأمنية والعسكرية الجديدة التي من المتوقع أن تتبلور قريباً.
في هذا السياق، اتخذت إدارة ترامب قرارات عدة مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والإعلان عن خطة السلام الأمريكية المعروفة باسم "صفقة القرن"، وقطع التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، الأمر الذي أشار بطريقة غير مباشرة إلى التقليل من دور الأردن الإقليمي والجوهري تجاه القضية الفلسطينية، بعبارة أخرى، يمكن القول إن قرارات إدارة ترامب تجاه هذه القضية اختلفت جوهرياً، ومنذ اللحظة الأولى، مع خيار حل الدولتين الذي تتبناه المملكة منذ توقيعها لاتفاقية السلام مع إسرائيل، وهو أيضاً الخيار الذي اتفقت عليه مبادرة السلام العربية في عام 2002، توازياً مع اجتماعات اللجنة الرباعية التي خرجت بنفس الاستنتاج الذي أيّد الفكرة القائلة بأن حل القضية الفلسطينية بحسب قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي هو الحل الوحيد لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وهناك مؤشر آخر يدل على ضعف التنسيق بين عمّان وإدارة ترامب، وذلك عندما انسحب جزء من القوات الأمريكية من مناطق في شمال شرق وجنوب سوريا في أكتوبر 2019 بقرار من الرئيس ترامب، بالتزامن مع بدء عملية "نبع السلام" بقيادة القوات التركية لقتال الوحدات العسكرية الكردية في مناطق شمال شرق سوريا، وقد جرى هذا الانسحاب بالرغم من علمهم بإمكانية تشكُّل حالة من الفراغ الأمني وعدم الاستقرار في المناطق المحاذية لحدود المملكة.
على خلفية ذلك، توجهت رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، على رأس وفد من المشرّعين لزيارة عمّان - قبل توجهها إلى كابول - لبحث قضايا المنطقة مع الملك عبد الله الثاني، حيث أكدت على أهمية الشراكة الاستراتيجية مع الأردن، بما في ذلك التعاون الأمني والتنمية الاقتصادية وغيرها من القضايا، مع العلم أن ترامب قد وجَّه انتقادات حادة لهذه الزيارة آنذاك.
تجدر الإشارة إلى أن الخلاف المبطّن بين الأردن وإدارة ترامب لم يؤدِّ إلى انقطاع الدعم الأمريكي بشقيه العسكري والاقتصادي للمملكة، ودليل ذلك هو مذكرة التفاهم الموقّعة بين الطرفين في فبراير 2018 والتي تعهد الجانب الأمريكي من خلالها بتقديم 6.375 مليار دولار على مدار خمس سنوات.
إدارة واشنطن الجديدة
لا يمكن أن ننكر بأن تغيير موازين القوى في واشنطن لصالح الديمقراطيين بداية 2021، شكَّل حالة من الارتياح لدى بعض دول المنطقة حيال الإدارة الجديدة، انطلاقاً من القدرة على توقع مسار هذه الإدارة والبناء عليه بشكل أكثر استقراراً مقارنة مع إدارة ترامب.
يتمتع الأردن بعلاقات متقدمة وأكثر انفتاحاً مع إدارة بايدن الجديدة على المستوى السياسي والعسكري والأمني، فضلاً عن علاقاته المميزة مع الشخصيات الوازنة والمؤثرة في مجلسي الشيوخ والكونغرس، إضافة إلى وجود توافق معين على بعض المواقف حيال قضايا الشرق الأوسط؛ حيث سارعت إدارة بايدن للتأكيد على أهمية حل الدولتين في أكثر من مناسبة، كان آخرها ما جاء على لسان وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، خلال مشاركته في مؤتمر مجموعة المانحين من أجل فلسطين الذي عُقد في 23 فبراير 2021 برئاسة النرويج، إذ أكّد بلينكن لنظيره الإسرائيلي غابي أشكنازي، الذي شارك في المؤتمر، على أن حل الدولتين هو الخيار الأنسب للاستقرار الذي سيجلب الأمن للمنطقة ولإسرائيل بطبيعة الحال.
وربما ينبغي الانتباه هنا إلى أن موقف إدارة بايدن هذا لن يستوجب أي خطوات عملية مباشرة من شأنها أن تؤدي إلى الإخلال بميزان المصالح الأمريكية الإسرائيلية، وبشكل عام يُعتبر التوجه الأمريكي العام واضحاً تجاه دعم مبدأ "الأرض مقابل السلام" بعد أن ساد مبدأ "السلام مقابل السلام" خلال السنوات الأربع الماضية، لكن يجب التنبه إلى أن هذا التوجه يتأثر بتغير القيادات والتوجهات الإسرائيلية والفلسطينية، فإما أن يتم الدفع نحو تعزيز هذا التوجه من خلال العودة إلى طاولة المفاوضات، أو عدم الاتفاق على حل الصراع وبالتالي إعادة إنتاج حالة الجمود السياسي.
يمكن القول إن المكانة الاستراتيجية للأردن لم تكن في أحسن أحوالها في عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وذلك بسبب ضعف وتيرة التنسيق بين الطرفين حول القضايا الإقليمية، أو انخفاض هذه الوتيرة عن المستوى المعتاد عليه، وبالتالي فإن عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض قد تشكل توقعاً أردنياً بأن تعود الأمور لما كانت عليه.
لكن تجب الإشارة إلى أن الأردن اليوم يقف أمام تحديات محلية معقدة، مثل ارتفاع نسب المديونية، وتنامي معدلات الفقر والبطالة بسبب تداعيات تفشي فيروس كورونا، الذي يعطل جزءاً كبيراً من الحياة اليومية.
إجراءات قد تتخذها عمّان
من أجل صياغة علاقة متقدمة مع الولايات المتحدة لإعادة ضبط الوتيرة السياسية الأمريكية الأردنية، بعد أن اضطربت قليلاً خلال السنوات الأربع الماضية، سيكون من المتوقع أن تتخذ دوائر صنع القرار الأردنية مجموعة من الإجراءات على الصعيد المحلي والإقليمي، ويمكن أن نستشرف بعضاً منها:
1. تطبيق التوجيهات الملكية بالاهتمام بعملية الإصلاح السياسي من خلال تطوير القاعدة القانونية الناظمة لسير العملية السياسية في البلاد، وتحاور القوى السياسية الفاعلة على الساحة المحلية حول سُبل الانتقال إلى حياة سياسية أكثر فاعلية وتقدماً، بحيث يُمكن من خلالها إدارة مناحي الحياة العامة بمستوى أرفع من المؤسسية المحوكمة، وهذا ما تضمنته بالأساس الرؤيا الملكية منذ عدة سنوات، إلا أن الظروف الموضوعية حالت دون التطبيق الأمثل لبعض جوانب هذه الرؤيا.
2. تكثيف المشاورات مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بملف المديونية العامة وكيفية إدارته بعدما بلغت نسبته 85% من الناتج المحلي الإجمالي في نوفمبر 2020، فالولايات المتحدة تمتلك 17% من المجموع الكلي للحصص في صندوق النقد الدولي، وبالتالي من الممكن أن تدفع واشنطن الصندوق باتجاه إعادة جدولة الديون أو التخفيف من أعباء الدين العام.
3. دراسة الحلول القابلة للتطبيق وسريعة التأثير، للتخفيف من الوطأة الاقتصادية العنيفة لفيروس كورونا، الأمر الذي سيسهم أيضاً في تماسك الموقع الاستراتيجي للمملكة في المنطقة أمام القوى الإقليمية والدولية الأخرى، والذي سيؤدي بدوره إلى المحافظة على استقرار أي تحالف حالي أو مستقبلي مع الولايات المتحدة الأمريكية أو أي شراكة مستقبلية.
4. الاستمرار في سياسة الحياد الإيجابي بين محاور المنطقة، ولعب دور الوساطة بهدف التنسيق بين وجهات النظر وبث الاستقرار فيها، وليس بخافٍ أن هذا الدور قد أعطى المملكة على مدار العقود الماضية قدرة على إيصال الصوت الشرق أوسطي إلى عواصم القرار المؤثرة، ودعوتها للاهتمام بالمنطقة وليس الاقتتال عليها.
5. إبقاء الباب مفتوحاً أمام المبادرات السياسية أو الاقتصادية، التي يمكن أن يتم طرحها من قبل فاعلين إقليميين أو دوليين، لتطوير علاقاتها مع المملكة بهدف توسيع قاعدة الخيارات المتاحة للسياسة الخارجية الأردنية، لتجنب الاعتمادية أحادية الجانب مهما كان شكلها.
6. استثمار العلاقات الأردنية مع مسؤولي الإدارة الأمريكية الجديدة من سياسيين وعسكريين، لطرح ومعالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك، والتركيز على أهمية الدور الأمني للأردن، البلد المحاط بتوترات ونزاعات عسكرية شديدة، وضرورة التنسيق الحثيث مع عمّان قبل أي تحرك عسكري في الدول المحاذية جغرافياً للمملكة؛ مثل العراق وسوريا بالدرجة الأولى، وذلك من أجل التشاور واتخاذ الخيار الأنسب تجاه الظرف الأمني المعني وتداعياته.
7. المبادرة بالعمل الدبلوماسي المكثف من أجل استقرار سوريا وإعادتها إلى البيت العربي، وذلك من خلال توظيف المملكة لعلاقاتها الجيدة مع الدول العربية، وبالأخص الخليجية، للإقناع والتنسيق حول سبل وآليات هذه العودة التي ستكون مُقدّمة لدمج سوريا في المجتمع الدولي من جديد، ولا شك أن هذه الخطوة ستُسهم في خفض الفاتورة العسكرية جراء تأمين الحدود الشمالية، وستفتح الباب أمام التفاوض حول مستقبل اللاجئين السوريين في المملكة، إلى جانب دورها في عملية إعادة الإعمار، والأهم من ذلك هو إنجاز تقدم في وتيرة التنسيق بين دمشق والعواصم العربية.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: