بعد أكثر من عقد على اندلاع شرارة ثورتها المنادية بالديمقراطية، وهي باكورة ثورات الربيع العربي التي انتشرت كالنار في الهشيم عبر أرجاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تهيمن تونس من جديد على المشهد السياسي العربي بعد لجوء رئيسها قيس سعيّد إلى قانون الطوارئ لإقالة رئيس الوزراء وتعطيل البرلمان في خضم أزمة اقتصادية وصحية تواجهها البلاد.
منذ اللحظة الأولى لاتخاذ سعيّد هذه الخطوة الدراماتيكية في الخامس والعشرين من يوليو، دار جدل كبير حول ما إذا كانت قراراته تمثل انقلاب رئيسٍ متعطّشٍ للسلطة أم مثالاً يحتذى به للقيادة الحازمة المبنية على خبرته السابقة كأستاذٍ للقانون الدستوري. ويبدو أنَّ سعيّد يستجيب بقراره لرغبة شعبٍ يتوق إلى حماية موطنه وديمقراطيته من براثن برلمانٍ مناهضٍ للإصلاح يرأسه سياسيون إسلاميون يرون في إقامة الدولة الإسلامية وسيلة مثلى لتطبيق الشريعة، ويهدفون من ذلك إلى استعادة القيادة الدولية وهيمنة الحكم الإسلامي على العالم.
وليست الاضطرابات التي تشهدها تونس اليوم وليدة الصدفة، فهي تعود إلى سنوات من المصاعب الاقتصادية وتردّي الخدمات العامة والنزاع حول الدستور وبطالة الشباب والشلل السياسي الذي قاد إلى أعلى نسبة وفيات ناتجة عن فيروس كوفيد-19 في مجمل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حسب بيانات منظمة الصحة العالمية.
عقب خروج آلاف المتظاهرين إلى شوارع المدن في أنحاء البلاد في الخامس والعشرين من يوليو، متحدّين القيود المفروضة بسبب الوباء ومطالبين باستقالة رئيس الوزراء وحلِّ البرلمان، استعان سعيّد بسلطته الدستورية ليحقق مطالبهم، فأقال رئيس الوزراء هشام المشيشي، وجرّد نواب البرلمان التونسي من حصاناتهم ثمَّ علّق عمل المجلس لمدة 30 يوماً مطيحاً برئيسه راشد الغنوشي الذي زعيم حركة النهضة، أي الحزب الإسلامي التونسي.
من جهته، دافع الاتحاد العام التونسي للشغل ذو النفوذ الواسع – وهو أكبر اتحاد نقابي في البلاد وشريكٌ في جائزة نوبل للسلام بسبب "مساهمته الحاسمة في بناء ديمقراطية تعددية في تونس" كعضو من مجموعة مجتمع مدني تُعرف باسم الرباعي التونسي للحوار الوطني – عن قرارات سعيّد قائلاً بأنّها مستندة بشكل كامل إلى الدستور، لكنّه دعا كذلك إلى تقديم "ضمانات دستورية" لحماية الديمقراطية في البلاد، وطالب بأن تظلَّ "الإجراءات الاستثنائية" التي اتخذها الرئيس محدودة زمنياً وضيقة النطاق كي يتسنى لمؤسسات الدولة معاودة عملها سريعاً.
وحتى الآن، لم يعلن الرئيس عن أي خطة عمل للسير وفقها خلال ثلاثين يوماً من تعطيل البرلمان، لكنّه أقال منذ توليه السلطات القضائية والتنفيذية مالا يقل عن 25 من كبار مسؤوليه، بالإضافة إلى إجبار رئيس الوزراء ووزيري الدفاع والعدل ومدير التلفزيون الحكومي على التنحي، بل إنّه طردهم بشكل صريح. ثم في الثاني من أغسطس، عاد سعيّد فأقال وزيري الاقتصاد وتكنولوجيا المعلومات وعيّن بديلين لهما، وفي اليوم التالي أقال سفير تونس إلى الولايات المتحدة ومحافظ مدينة صفاقس الساحلية دون تقديم أي مبررات. كما أصدر وزير الداخلية الجديد أمراً باعتقال عدد من أعضاء البرلمان والوزراء السابقين والقضاة وشخصياتٍ عامةٍ أخرى لاشتباه تورطهم في قضايا الفساد – مع أهمية الإشارة إلى أن بعض هذه الاعتقالات كانت تنفيذاً لمذكرات سابقة دخلت حيّز التنفيذ بعد رفع الرئيس للحصانة البرلمانية عن عدد من الأفراد. من هذه الشخصيات البرلمانيان ياسين عياري وماهر زيد، واثنين من كبار المسؤولين القضائيين هما الطيب راشد وبشير العكرمي، والوزيرين السابقين أنور معروف ورياض المؤخر.
يجادل منتقدو سعيّد بالقول أنَّ أعضاء حركة النهضة احترموا المبادئ الديمقراطية الأساسية وفازوا بالانتخابات في إطارٍ ديمقراطي مبني على أساس تفضيلاتهم الأيديولوجية، وأنا لا أدحض أقوالهم، ذلك لأنني مسلم متديّن وداعم للديمقراطية، فلا أمانع تولي الإسلاميين أماكنهم التي انتُخبوا لها حسب الأصول في أي حكومة، لكنَّ أحد أسباب احتجاجات الخامس والعشرين من يوليو كان الاعتراض على استغلال حركة النهضة لأغلبية أعضائها في البرلمان، وهي ميزة حاولوا استعمالها للسيطرة على الحكومة وإحباط تحقيق أهداف سعيّد المعلنة في حملته الانتخابية، أي الأهداف التي مكّنته من الفوز برئاسة الدولة عام 2019 بنسبة 73% من أصوات الناخبين الإجماليين و90% من أصوات الشباب التونسي– وكان على رأس هذه الأهداف محاربة الفساد المستشري، والسماح للناخبين بإقالة السياسيين المتهمين بفساد مالي أو أخلاقي، وأهم من ذلك كله، حلَّ نظام البلاد البرلماني لصالح نموذج ديمقراطي لا مركزي وصفه سعيّد بأنّه "ديمقراطية الأفراد" إذ ينتخبون مجالس محلية صغيرة بناءً على شخصيات ممثليهم (عوضاً عن حزب أو أيديولوجية)، ويختار هؤلاء ممثلين إقليميين لهم، يختارون بدورهم ممثلين على نطاق البلاد.
وفي ما يخص حركة النهضة التي يقودها الغنوشي، فهي لا تتبع من حيث الهيكل التنظيمي والإداري إلى حركة الإخوان المسلمين مباشرة، لكنَّ معتقداتها وأيديولوجيتها وإطار عملها الأكبر يحذو حذو نموذج الإخوان، بالإضافة إلى الجذور التاريخية المشتركة بين الطرفين. ولكن بعد إعلان عدة دول عربية وعالمية أنَّ حركة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية ومنها: سوريا (1980)، روسيا (2003)، مصر (2013)، والبحرين والسعودية والإمارات العربية المتحدة (2014)، لجأ الغنوشي عبر المؤتمر الصحفي للحركة عام 2016 إلى الكشف عن انفصال الحركة المفاجئ عن فكر الإسلام السياسي واعتناقها للديمقراطية الإسلامية، معلناً بذلك أنَّ الحركة ستصبح حزباً ديمقراطياً مدنياً يرتكز على الفصل بين الممارسة السياسية والوعظ الديني.
على الرغم من ذلك، يخشى العديد من التونسيين أنَّ حركة الإخوان المسلمين ما زالت تطْبق بالفعل ببراثنها على حركة النهضة، ويطالبون بدلائل أقوى تؤكد تنصّل أعضاء الحزب من الإخوان، وهذا هو السبب الذي دفع عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، إلى تسليم مسوّدة قرار في العام الماضي لتصنيف حركة الإخوان المسلمين رسمياً كمنظمة إرهابية و"اعتبار أي شخص أو كيان يمتلك صلات بها في تونس مذنباً بجرائم تتعلق بالإرهاب". وبعد أن سلّطت موسي الضوء في السابق على الصلات التاريخية والأيديولوجية بين حركة النهضة والإخوان المسلمين وتبعياتٍ إسلاميةٍ أخرى، صرّحت قائلة: "اليوم، نريد موقعاً سياسياً واضحاً: على الأحزاب السياسية والسياسيين الذين يريدون مقاطعة تنظيم الإخوان المسلمين إثبات ذلك والتصويت لصالح مشروع الاقتراح هذا".
أعتقد أن تصرف موسي واضح في أهدافه، ذلك لأنَّ فصل حركة النهضة للإسلام عن السياسة – وبالأخص عن حركة الإخوان المسلمين – في عام 2016 هو مجرد تكتيك سياسي مرحلي يمكن عكسه بسهولة، ويعود ذلك إلى أنَّه في الستينيات والسبعينيات وقبل الثورة التونسية عام 2011، كان لحركة النهضة علاقات وثيقة مع الإخوان، ولم يتغير الأمر إلا عندما تصاعدت الإدانات حول العالم للطبيعة الإرهابية للإخوان المسلمين، حينها قرر الغنوشي أنّه من الحنكة السياسية إعلان فصل حزبه عن الإخوان علناً، ولكن هذا التراجع ليس عملياً في الأغلب، بل مجرد تكتيك صوري يخدم استراتيجيات الإسلام السياسي الحديث، إذ تقتصر عملية الفصل هنا على عزل الدين عن السياسة، بينما تظل الأيديولوجية أمراً ثابتاً رغم تحويل الانتماء وتغيير المسميات.
وبالعودة إلى إجراءات سعيّد وأصدائها الدولية، رفضت الولايات المتحدة مراراً – وبحكمة - إطلاق اسم ’انقلاب‘ على الأحداث الدائرة في تونس، عوضاً عن ذلك، شدّد البيت الأبيض في السادس والعشرين من يوليو على حاجة المجتمع التونسي إلى الدفاع عن قيم الدولة و"المضي قدماً بانسجامٍ مع المبادئ الديمقراطية." وفي اليوم ذاته اتصل وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن بسعيّد وشجعه على "التمسّك بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان" حسب ما نقله متحدث باسم وزارة الخارجية.
وفي اليوم التالي، حذت بريطانيا حذو الولايات المتحدة بتصريح مقتضب دعت فيه "جميع الأطراف إلى الحفاظ على سمعة تونس كمجتمع متسامح ومنفتح، وحماية المكاسب الديمقراطية لثورة 2011." لكن ذلك لم يمنع صحيفة الغارديان أن تفتتح عددها الصادر في السادس والعشرين من يوليو بالحديث عن سعيّد وقراراته تحت عنوان ميلودرامي مثير: "ربيع يتحول إلى شتاء."
بدلاً من التصريحات المقتضبة والمواقف غير الواضحة، ربما ينبغي على بريطانيا ودول الغرب الأخرى بناء علاقات مع الدول العربية تمر فوق جسورٍ من المعرفة والتفهم عوضاً عن أن تهوي في حفر من الإدانة والأحكام المبتسرة. وأعتقد أنه في منطقة معقدة التفاصيل مثل الشرق الأوسط سيكون بناء ديمقراطيات تكسب رهان الوقت وتدحض القوى الحاقدة - مثل حركة الإخوان المسلمين وشركائها - عملاً عديم الجدوى مالم تستوعب شعوب المنطقة فلسفة الديمقراطية وكيف تصون حقها في اختيار حكومة تمثّلها فعلاً. على الحكومات الغربية أيضاً أن تدمج رسائلها المتعلقة بالتمكين والتنوير مع تطبيق فعليّ لشراكات اقتصادية، وصداقة، وسلام مستدام يسمح للشعوب العربية بأن تصبح شريكاً فاعلاً في الحرب ضد الإرهاب عوضاً عن أن تكون داعمةً للإسلام السياسي.
بالمقابل.. على سعيّد ومنظمات المجتمع المدني مساعدة شباب تونس للتعرّف على تعاليم عظماء الفلاسفة السياسيين مثل جون لوك، وتوماس هوبز وبارون دو مونتسكيو وآدم سميث وبرتراند رسل، وحتى نيكولو مكيافيلي. سعيّد الذي يُطلَق عليه لقب "روبوكوب" أي "الشرطي الآلي" لأسلوبه القاسي وسلوكه الصارم، سياسي مستقل قوي، فاز بانتصار ساحق في الانتخابات المباشرة الثانية على الإطلاق في تاريخ تونس، وسوف تصفه كتب التاريخ أنّه كان المدافع عن آخر بلد ديمقراطي استطاع الحفاظ على إنجازاته السياسية بعد لحظة مضيئة في التاريخ كان اسمها الربيع العربي.
المصدر: Kais Saied Is Not a Dictator
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: