مقدمة عن المصطلحات وأفعالها
الخوض في إشكالية البنوك الإسلامية هو أمر يثير لدي طرح الأسئلة أكثر من رغبتي بالاستعجال في إطلاق الأحكام وتقديم الأجوبة، ولمّا كانت الأسئلة هي ثمار التفكير النقدي بالدرجة الأولى، فإن هذا النقد الأولي لما شاع الاتفاق على تسميته بـ"البنك الإسلامي" يستدعي مدخلاً لا بد منه هو المصطلحات والمفاهيم ذاتها، إذ افترض منذ البداية أن رأس المشكلة والدّال عليها يكمن في الإرباك الإشكالي حول المفاهيم بالدرجة الأولى، والتي يؤدي الجمع فيما بينها، وكذلك شكل ترتيبها، إلى توجيه عقولنا، والتأثير فيها بشكل ناعم وخفي، يجعلنا نتقبل الأوهام كحقائق مطلقة، ونسلّم بالظنون كثوابت راسخة، ونستسلم للخديعة دون نقد أو مراجعة أو تمحيص.
أول هذه المفاهيم هو ما يشير إليه مصطلح "الإسلامي" ذاته، أي النسبة إلى الإسلام أو الوصف به، وأكاد أجزم أن في استخدام هذا المصطلح اليوم شيء كثير من المخاتلة، ويستدعي الكشف عن مضامينه المتباينة أحياناً، بل والمتناقضة أحياناً أخرى - أن نعزل الإسلام (كدين سماوي وعقيدة وشريعة إلهية) عن المصطلحات التي تُضاف إليه (أي حين ننسبها للإسلام أو نصفها بأنها إسلامية)، مثلاً: حين نتحدث عن "التاريخ الإسلامي" فنحن لا نقصد هنا تاريخ الإسلام نفسه، بل تاريخ أجيال من البشر المختلفين في كل شيء، والذين تعاقبت عليهم دول وحكومات وسياسات متنوعة، وشهدت مجتمعاتهم أحوالاً متباينة من الصعود والهبوط، والتقدم والتخلف، والهزيمة والانتصار. ما يعني أنه لا صلة ضرورية بين التاريخ الإسلامي وبين الإسلام ذاته من جهة قداسته ومثاليته، بل الفارق بينهما شاسع وكبير، وهو ذاته الفارق بين الإلهي والإنساني. وعلى المنوال ذاته يجب أن لا ترتبط بالقداسة أي من المفاهيم الشائعة في هذا السياق، كالحضارة الإسلامية، والفن الإسلامي، والمجتمع الإسلامي، والعلوم الإسلامية، وأيضاً الدولة الإسلامية والسياسة الإسلامية، وعند هذه الأخيرة مربط فرس حديثنا.
سأبدأ أولاً من سوق مثال عن التمييز الواضح والشائع بين مصطلحين متبادلين؛ هما: السياسية الإسلامية والإسلام السياسي، فالمصطلح الأول وصف محايد لتراكم الخبرات والتجارب والأفكار والفلسفات التي تعنى بالسياسة وأشكالها وعلومها عبر تاريخ الدول الإسلامية بالمعنى السابق أعلاه، والذي بدأ منذ أكثر من أربعة عشر قرناً وما زال مستمراً لليوم، ولا يمثل هذا التراكم قيمة مقدسة أو موقفاً أو توجهاً بذاته. أما الإسلام السياسي فله شأن آخر، ولست هنا بصدد ضبط مفهومه الدقيق وتحديد تعريفه الجامع المانع، بل يكفي القول إنه موقف واضح وتوجه محدد يستخدم لوصف الحركات السياسية التي تنطلق من أن الإسلام ليس ديناً فحسب، بل هو أيضاً (وهنا أنقل آراء مؤيدي الإسلام السياسي ولا أتبناها) نظام حكم سياسي واجتماعي وإداري واقتصادي تخضع له الدولة بكافة مؤسساتها وأجهزتها ومكوناتها. أُطلق هذا المصطلح على الحركات الإسلامية الأصولية وصار شائع الاستخدام مطلع القرن الحالي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. وبهذا المعنى فمصطلح الإسلام السياسي مقابل مفهومي مضاد وصريح لمصطلح العلمانية، والتي تعني في أبسط دلالاتها فصل الدين عن الدولة.
إذن ثمة فرق كبير وواضح بين حيادية مصطلح السياسة الإسلامية، كفضاء واسع من الخبرات والمعارف والتجارب السياسية، وبين مصطلح الإسلام السياسي كموقف أيديولوجي محدد، هذا الفرق هو ما يجعل المصطلح الأول موضوعاً للمعرفة والتاريخ، بينما يجعل الثاني (الإسلام السياسي) موضوعاً للإيمان والاعتقاد والتمثل في السلوك والتطبيق، ولذلك لن تجد أحداً يقاتل لأجل السياسة الإسلامية، لكن هناك من يقاتلون، فيَقتلون ويُقتلون، لأجل الإسلام السياسي.
الإسلام السياسي والإسلام الاقتصادي/ كيف يلتقيان؟!
يفترض الإسلام السياسي إذن أن الإسلام نظام شامل لكل نواحي المجتمع، ومنها الاقتصاد، فكيف عسانا نفسر إذن مصطلح "الاقتصاد الإسلامي"؟ هل هو يدل حقاً على ما ينتهي إليه التحليل السابق والمقارنة بين "السياسة الإسلامية" و"الإسلام السياسي"، فيُقصد به المعارف والظواهر والأفكار الاقتصادية التي تخص الأفراد والمجتمعات في حقب تاريخية مخصوصة وعلى أرض محددة؟ أم يُقصد به النظر للإسلام كنظام اقتصادي متكامل الأركان مقابل الأنظمة الاقتصادية المعروفة، كالنظام الرأسمالي أو النظام الاشتراكي.. إلخ؟
من الناحية النظرية.. يكاد لا يوجد عبر تاريخ البشرية اقتصاد ينسب إلى دين بذاته، إذ ليس هناك اقتصاد مسيحي أو يهودي، ولا حتى هندوسي أو بوذي أو غيرها من الأديان السماوية والأرضية. فإذا كان المقصود من كلمة "الإسلامي" توصيف مجموعة من الأمم والأعراق والمجتمعات المختلفة التي لم يجمع بينها سوى أنها تدين بالإسلام، فإن الاقتصاد الإسلامي هو اقتصاد هذه الأمم والمجتمعات قديمها وحديثها، فيكون مماثلاً بذلك لما نسميه الاقتصاد الروماني، أو الاقتصاد الصيني، أو البريطاني، أو الأمريكي.. دون أن نعني بذلك نسبة الاقتصاد للدين ذاته.
لكن الأمر يختلف اختلافاً جذرياً من ناحية استخدام المصطلح اليوم لدى شريحة واسعة من ممثليه، إذ يحاولون إيهام الناس من خلاله بأنه ثمة نظام اقتصادي في الإسلام متكامل الأركان، وقادر في الوقت نفسه على منافسة الأنظمة الاقتصادية العالمية! وليس هذا كل ما في الأمر فحسب، بل يدافع أصحاب هذا المصطلح عن أن الاقتصاد الإسلامي قادر على تجاوز عيوب وسيئات الأنظمة الأخرى، وأنه الطريق الوحيد لتطبيق العدالة الاقتصادية والقضاء على كافة أشكال الفقر وسوء توزيع الثروات، كما أنه قادر على تجاوز الأزمات الاقتصادية والقضاء على أسبابها وحل مشكلاتها.. إلى آخره من الادعاءات التي تصور "الاقتصاد الإسلامي" المتخيل كيوتوبيا مثالية أو فردوس مفقود ستبقى البشرية في شقاء اقتصادي طالما أنها لا تعمل به!
لذلك وقبل الخوض في مسألة البنوك الإسلامية يجب إذن تسمية الأشياء بأسمائها وتعديل مصطلح الاقتصاد الإسلامي بحسب المعنى المقصود أعلاه ليصبح "الإسلام الاقتصادي"، أي على غرار "الإسلام السياسي" باعتبار أن المنطلَق النظري لكليهما واحد. وقد سبق أن كتبت مقالاً بينت فيه أن كلا المصطلحين يقوم على الأيديولوجيا ذاتها التي يتبناها "الإسلامويون" حين يسحبون الدين خارج منظومته الأساسية القائمة على الاعتقاد والتعبد والقيم الأخلاقية الموجهة للسلوك، أي أنهم كما يدّعون أن الإسلام نظام سياسي، هو أيضاً نظام اقتصادي يجب أن تخضع لها كافة ظواهر الاقتصاد وأنشطته ومؤسساته وتعاملاته.. إلخ.
وما تجدر ملاحظته في هذا السياق أن هذه الأيديولوجيا الإسلاموية هذه أصبحت لا تقتصر اليوم على السياسة والاقتصاد فحسب، بل لقد أصبح شائعا على غرارهما الحديث عن الإعلام الإسلامي والقانون الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي.. وغيرها من المفاهيم التي أصبحت تنتظم ضمن اختصاصات أكاديمية تُعطى صفة "العلوم الشرعية/ أو الإسلامية، وتُدرّس في جامعات ذات هوية دينية واضحة، وهذا موضوع مقال مستقل أعزم على نشره قريباً.
"البنك الإسلامي" و"الإسلام الاقتصادي".. البدعة المؤسسة على الوهم
في ظل أي نظام اقتصادي قائم، يعمل البنك كمؤسسة تنفيذية تتمثل الفلسفة النظرية لهذا النظام وتطبيقها في الواقع العملياتي، ولذلك لا تخلو أي دولة اليوم من بنك مركزي يضبط مسألة النقد فيها، ويمارس من خلال صلاحياته دوراً رقابياً على كافة أشكال التعامل الاقتصادي ومستوياته. بينما تعمل البنوك الأخرى، العامة والخاصة، دور الوسيط بين العملاء من جهة، وبين البنك المركزي، وبالتالي النظام الاقتصادي المعتمد، من جهة أخرى
أما البنوك التي تُسمى إسلامية فتكاد تكون ذات هوية مزدوجة، إذ أنها ترتبط بالنظام الاقتصادي العام عبر علاقتها الضرورية مع البنك المركزي والبنوك الأخرى، لكنها تنسب نفسها من جهة أخرى إلى النظام الاقتصادي الديني الذي تزعم وجوده. غير أن نظرة ثاقبة في بنية هذه البنوك تكشف لنا وبشكل مباشر أن الجوهر الرئيس الذي تستند إليه في وصفها بالإسلامية هو استبدال التعاملات أو المنتجات البنكية المعروفة (التي تعتبرها ربوية ومحرمة دينياً) بأخرى تبيحها الشريعة الإسلامية، أما ما عدا ذلك، فالبنك الإسلامي هو صورة مستنسخة عن أي بنك آخر، مع استناد قوانينه في الغالب للنظام البنكي الرأسمالي، والذي هو الأقرب (مقارنة بنظيره الاشتراكي) إلى طبيعة القيم الإسلامية التي تكرس الحريات الاقتصادية والتنافس والملكية.
يتعامل البنك الإسلامي، كغيره من البنوك، مع جهتين اثنتين، الأولى هي العملاء والزبائن من الأفراد والشركات، أما الجهة الثانية فهي البنوك الأخرى والأسواق المالية المحلية والخارجية، بالإضافة إلى البنك المركزي في الدولة، وإذا كان البنك الإسلامي قادراً على ضبط علاقته مع الجهة الأولى (العملاء الأفراد والشركات) وتقديم منتجاته لها عبر قوانين خاصة يعلن أنها لا تتعارض مع الدين، وتعتمد نظام المرابحة بديلاً عن الفائدة، فإنه في تعامله مع البنوك الأخرى والبنك المركزي ملزم بالخضوع للقوانين العامة التي تحكم العلاقة مع هذه البنوك، والتي تمثل الفائدة فيها ركناً اساسياً لا يمكن رفضه أو الالتفاف حوله، باختصار أيضاً: البنك الإسلامي ملتزم بالشرع (كما يقدم هو نفسه) مع العملاء، ومخالف له مع البنوك والأسواق المالية.
وحتى إذا ما فرقنا بين مستويي التعامل.. يؤكد عدد كبير من الفقهاء والمختصين أن المنتجات والمعاملات التي تعتبرها هذه البنوك شرعية ومتفقة مع الأحكام الدينية هي ليست كذلك دائماً، فمثلا يعتقد كثير من الفقهاء أن القروض التي يقدمها البنك عبر نظام المرابحة تتضمن عدة مخالفات شرعية، ومنها أن البنك حين يتفق مع العميل بشكل مبدئي على بيعه سلعة ما فإنها ليست من ضمن ما يمتلكه، وقد نهى الإسلام عن بيع ما لا يمتلكه البائع. كما أن المشتري يكون ملزماً بالشراء بشكل مسبق دون أن يكون له الحق بالتراجع، وهذا ما نهى عنه الشرع أيضاً فـ(البيّعان بالخيار ما لم يفترقا)، يضاف إلى ذلك أن تأخر المشتري عن فترات السداد يلزمه بدفع غرامة التأخير، وهذا ما يُعدّ نوعاً من أنواع الربا بحسب أغلب المجامع الفقهية الإسلامية.
عن الفائدة البنكية وربا المرابين.. هل يستويان؟
حري بنا، ضمن هذا السياق، أن نتوقف عند مسألة "الفائدة" البنكية وموضوع اقترانها بالربا، إذ أن مجرد وجود البنك الإسلامي، وإعلانه أنه لا يتعامل "بالربا" كرّس تصوّر عامة الناس إلى البنوك الأخرى التقليدية وكأنها "أشخاص مرابون وجشعون" بغض النظر عن الحلال والحرام. وللأسف فإن هذا التصور ينطوي على تبسيط وسذاجة كبيرين، ذلك لأن الفائدة التي تضيفها البنوك إلى تعاملاتها ومنتجاتها هي أمر اقتصادي بحت تفرضه قوانين النُظُم واعتبارات النشاط التجاري وقوانين المصلحة المالية، فالبنك لا يهدف إلى الحصول على المال وتراكمه لديه بغير حق واحتكاره بيد فئة قليلة كما يفعل الربا المنهي عنه في الشريعة، بل إن الفائدة في ظل النظم البنكية السائدة عالمياً هي جزء رئيس من استمرار عملها، إذ يقدم البنك منتجه الخاص، الذي هو المال على شكل قروض، مقابل عائد محدد يُضاف إليه وقت إرجاعه، ولا يخضع تحديد حجم هذا العائد المضاف إلى أهواء ملاك البنك أو المساهمين فيه، بل إلى مجموعة من القوانين التي تراعي الاعتبارات الاقتصادية البحتة، والتي من أهمها الحفاظ على استمرار البنوك والمؤسسات المالية في تقديم خدماتها والاستجابة للحاجات الضرورية التي تسدّها، يضاف إلى ذلك أيضاً أن الزيادة المضافة تضمن الحفاظ على القيمة الحقيقة للمال المقترض في ظل عملية التضخم ونسبتها الطبيعية المحتملة.
لذلك أرى أنه من الخطأ الفادح النظر إلى الفوائد البنكية ومحاكمتها ربوياً بمعزل عن النظام الاقتصادي العام الذي تنتمي إليه، خاصة بعد تغير المفهوم العالمي للمال وقيمته وفك ارتباطه بالمعادن الثمينة وعلى رأسها الذهب، فالبنك الذي يقدم منتجاته في ظل هذه الظروف والاعتبارات لا يشبه المرابين في شيء، خاصة أن المرابي ينطلق في تقديم خدماته من استغلال حاجة المقترض بالدرجة الأولى، ولذلك فإن نسبة الزيادة التي يشترطها تفوق الفوائد البنكية بأضعاف مضاعفة، وعندما يطالب المرابي برهن ليضمن استرداد ماله والزيادة المشروطة عليه فإنه لا يقبل إلا بأن يكون الرهن تنازلاً عن ملكية تكون قيمتها أكبر بكثير من المال المقترض، لأن المقترض حين يعجز عن سداد الدين والزيادة التي عليه، وهذا ما يريده المرابي، فإن الأخير سيحصل على الملكية المرهونة كاملة والتي تبلغ قيمتها أحيانا عشرة أضعاف ما ينبغي أن يدفعه المقترض.. أو أكثر.
هذه الشروط الظالمة والمجحفة التي يعمل بها المرابي تجعله منذ البداية خصماً للمقترض حين يستغل حاجته بالدرجة الأولى، ثم حين يشترط زيادة كبيرة غالباً ما تؤدي إلى تعثر المقترض وتأخره عن السداد، فيخسر ملكيته كاملة مقابل ذلك. أما البنك فليس خصيم عملائه في شيء، لا في نسبة الفائدة القليلة التي يحصل عليها، ولا حين يتعثر المقترض بالسداد، بل تعتمد البنوك التقليدية دائما سياسة إعادة جدولة سداد المعثرين، ومنح الفرصة بعد الأخرى. حتى حين يعجز المقترض وتنتهي الفرص، فإن البنك يأخذ من الرهن ما يساوي المال الذي يطلبه، ويعيد ما بقي منه لصاحبه. باختصار: غاية البنك أن يسدد المقترض ما اقترضه ضمن فترة السداد، بينما غاية المرابي أن يتعثر المقترض فيسلبه الملكية التي رهنها.
من ناحية أخرى.. تنشط البنوك في تقديم منتجاتها في ظل وفرة مالية وظروف اقتصادية جيدة ومستقرة، لذلك فهي تسعى دائماً إلى تسريع عجلة التنمية ونشاط السوق وزيادة التبادل التجاري والإقبال على المشاريع الاقتصادية بكافة أشكالها، فهذا هو المناخ الصحي المناسب لنموها واستمرار خدماتها. أما المرابي فينشط في ظل الظروف المعاكسة تماماً، وتتعاظم فرصه حين يشح المال في يد الناس وتتوقف عجلة الاقتصاد وتعم البطالة ويزداد الفقر، يعني ذلك أن تطور البنوك واستمرار عملها هو الضامن الأمثل لحماية المضطر من اللجوء إلى المرابي، وهذا ما لا يريده الأخير ابداً.
هل تكفي أخلاق الاقتصاد لقيام نظام اقتصادي؟
عودٌ على بد، وحين نتحدث عن النظام الاقتصادي كما يعرفه البشر (رأسمالي أو اشتراكي أو مختلط..) فنحن نقصد وجود نظرية اقتصادية متكاملة الأركان، أي تتضمن نسقاً معرفياً وفلسفياً يبدأ من تحديد مفهوم الاقتصاد ذاته، ويقوم على مجموعة من المبادئ والتصورات والتعريفات المجردة، وعلى الأدوات والآليات التي تضع هذه المبادئ والتصورات موضع التطبيق في النشاط الاقتصادي الإنساني. وفي الحقيقة، فهذا ما لا يتضمنه الإسلام بأي شكل من الأشكال! قد يبدو هذا الحكم صادماً للبعض.. فدعونا إذن نفحصه من داخل الإسلام ذاته.
الإسلام دين وشرعة سماوية ولا يصح إخراجه عن مجاله هذا كي لا تضيع غايته. وعادة ما يقول أنصار الإسلام الاقتصادي أن الإسلام عبر صراحة عن تحريم الربا، ووضع منظومة فقهية متكاملة عن أنواع البيع؛ الفاسد منها والمحرم والجائز؛ وعن العهود والعقود والمواثيق وتسجيل الديون في التعاملات المالية، والبعض يوسّع دائرة التعاملات الاقتصادية في الإسلام ليُدخل فيها المواريث وأحكامها باعتبارها آليات نقل الملكيات وتوزيع الثروات الخاصة. وهذا كله مما تضمنته الشريعة الإسلامية بالفعل، ولكنه بأية حال لا يصنع نظرية اقتصادية ولا يضع نظاماً اقتصادياً أيضاً، والدليل على ذلك بسيط جداً وبديهي جداً، وربما يغفل عنه الكثيرون بسبب بساطته وبداهته، هذا الدليل هو أن غاية الشريعة الإسلامية في وضع أحكام التعاملات الاقتصادية (كالبيوع والعقود والديون) هي رفع الظلم عن الإنسان وحفظ حقوقه من أن يُعتدى عليها.
وأرى من جهة مطابقة، أنه ورغم الحفاوة التي يوليها أنصار الإسلام السياسي بآراء منظريه التي قاربت موضوع الاقتصاد بشكل عام وثانوي، وبخاصة ما اطلعت عليه من أعمال حسن البنا مثلاً أو سيد قطب وغيرهما ممن نادوا دائماً بتغيير النظام الاقتصادي من ربوي محرم إلى "إسلامي" كحال تغيير النظام السياسي والاجتماعي، فإن آراءهم تلك لا تخرج عن حدود إبراز هذه الغاية أعلاه، بل تمثل تكرار الصدى ذاته في تأكيد أن جواز بعض التعاملات الاقتصادية وتحريم بعضها الآخر لا يخرجان عن مسعى الشريعة في حفظ حقوق الفرد ورفع الظلم عنه، ولا يمكن اعتبار هذه الآراء صالحة لتكون أُسساً وأفكاراً يُبنى عليها نظام اقتصادي مستقل ومتكامل، ولا حتى مجرد مذهب اقتصادي واضح المعالم. بل إن التدقيق في أفكار وآراء أنصار الإسلام الاقتصادي، والتي يحاولون من خلالها بناء نظام اقتصادي مستقل بهوية إسلامية ليست سوى مزيجاً تختلط فيه قيم النظام الرأسمالي، من الجهة القانونية والحقوقية (الحرية الاقتصادية والتنافس والملكية الخاصة)، مع قيم النظام الاشتراكي من الجهة الأخلاقية والاجتماعية (المساواة والتكافل والضمان الاجتماعي ومنع الاحتكار)، والتاريخ حافل بالشواهد التي تؤكد أن التوفيق بين نظامين متضادين لا يصنع نظاماُ مستقلاً بذاته!
وبأية حال.. ما قد يجهله كثيرون أن تحريم الربا حفظاً للحقوق ومنعاً للظلم أمر لا ينحصر في الإسلام وحده، بل هو مما تفرضه الشريعتان اليهودية والمسيحية أيضاً، وما زال المؤمنون بهما يلتزمون بهذا الحكم، تأكدت من ذلك ذات مرة حين التقيت يهوديا مرابياً في إحدى الدول الأوروبية، وللمفارقة فقد كان والده حاخاماً مسؤولاً عن حفظ الواجبات الدينية ووعظ الناس بها، سألته صراحة: أليس الربا حرام عندكم وأنت تعمل بها ووالدك حاخام؟ قال: بلى، ولكن والدي هو من أفتى له بجواز الربا مع غير اليهود! الشاهد في الحادثة، وبغض النظر عن انحراف تطبيق الحكم الديني، أن الربا محرم في الأديان الثلاثة لأنها تهدف جميعاً إلى حفظ حقوق البشر وتنظيم العلاقات الأخلاقية بينهم.
لذلك.. وإذا ما دققنا في الأحكام الدينية التي تنظم التعاملات المالية بين الناس سنجد أنها أحكام عامة مطلقة لا تسند إلى فكر أو فلسفة اقتصادية محددة، والمؤمن ملزم بها سواء كان يعيش في ظل نظام رأسمالي أو اشتراكي أو إقطاعي أو أي نظام آخر من الأنظمة الاقتصادية التي عرفتها المجتمعات الإنسانية.. ما يعني، وباختصار، أن الإسلام، كما الأديان الأخرى، لا يفرض نظام اقتصادياً بعينه، وأن ما فيه من جوانب اقتصادية إنما جاءت لاستكمال الهدي الإلهي في التعامل بين البشر.
أعتقد بناء على ما سبق أن العلاقة التي تربط الدين بالاقتصاد ينبغي أن تكون ذات طبيعة توجيهية قيمية، كالتي ينبغي أن تربطه بالسياسة، وهذا ما أدافع عنه دائماً وأدعو إليه، أقصد بذلك فصل الدين عن أية أهداف اقتصادية بغية تأكيد دوره الأصيل كموجه قيمي وأخلاقي وحقوقي للتعاملات الاقتصادية وليس أداة من أدواتها. جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حين وقع غلاء الأسعار في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: (يا رسولَ اللَّهِ سَعِّرْ لنا قالَ: إنَّ اللَّهَ هوَ المُسعِّرُ القابِضُ الباسطُ الرَّازقُ)، وجاء في صحيح مسلم عن أنس ابن مالك أيضاً رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا "تمرا رديئا" فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم). وما الاقتصاد إلا رأس أمور دنيانا!
حصان طروادة!
البنوك الإسلامية هي الجزء الظاهر من جبل جليد مشكلة هي أكبر حجماً مما يبدو، أقصد هنا مشكلة أيديولوجيا "الإسلام الاقتصادي" الذي يمثل في العمق الرديف الأقرب إلى الإسلام السياسي، بل ويشكل أحد أهم أذرع قوته الناعمة في الدول والمجتمعات، وما إصرار الإسلام السياسي على تكريس الوجه الاقتصادي للإسلام إلا جزءاً من هذه الأيديولوجيا الأشمل التي يراد من خلالها النفاذ إلى السلطة والدولة والمجتمع عبر التذرع بالانتصار للإسلام والعودة إليه في المجالات جميعها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفنية، بينما الحقيقة أنه كان وما زال يسعى للانتصار لنفسه عبر استخدام الإسلام للهيمنة على السياسة والاقتصاد والمجتمع.
وإذا كانت أداة الإسلام السياسي هي استغلال الدين لإثارة وجدان المؤمنين وعواطفهم بهدف كسب أصواتهم وتعاطفهم وحماسهم وضمان قبوله لديهم، فإن الإسلام الاقتصادي يسعى بالأدوات ذاتها (استغلال الدين والعزف على الجانب الوجداني والعاطفة الإيمانية) إلى كسب أموال المودعين ومدخراتهم، أو مقاسمة المقترضين أرباح جهدهم وتعبهم، وتحميلهم من التكاليف ما يفوق مثيلاتها في البنوك التقليدية، وليس بخاف على أحد أن الإجراءات التي تعتمدها البنوك الإسلامية في بيع منتجاتها، وبخاصة نظام المرابحة، لا تخلو من أعباء مالية إضافية أيضاً، تبدأ بتسديد رسوم المعاملة التي لا تدخل ضمن مبالغ البيع والشراء، وبدفع الربح المضاف مرتين اثنتين بدلاً من مرة واحدة؛ الأولى للتاجر والثانية للبنك، ثم بدفع رسوم نقل الملكية مرتين اثنتين أيضاً، الأولى حين يمتلك البنك السلعة، والثانية حين تنتقل السلعة لملكية العميل مع نهاية السداد، ناهيك طبعا عن غرامات التأخير والتعثر في السداد، والتي غالباً ما تكون تصاعدية، وكثيراً ما يقع هذا التأخير والتعثر بسبب زيادة هذه الأعباء المالية. ما يعني في نهاية المطاف أن ما تقوم به البنوك الإسلامية لا يخلو من الشبهات غير الشرعية ولا يخدم القيم والغايات التي حضّت عليها الشريعة.
أخيراً.. وبعد مجمل التساؤلات التي حرصت على إثارتها في ذهن القارئ، أود في النهاية طرح سؤال بديهي حول "نظام المرابحة" ذاته (والذي يستند إليه التحليل الشرعي بمنح القروض واستعادتها بفائدة مضافة)، مفاد هذا السؤال: ألا تمثل المرابحة شكلاً من أشكال الالتفاف على أحكام الشريعة الإسلامية عبر اختلاق نظام جديد هو ليس "قرضاً حسناً" لأن المقترض لا يعيد ما اقترضه فحسب، بل لا بد من زيادة؟ وهو ليس شراكة تجارية بمنظور الأحكام الشريعة لأن البنك يضمن دائماً حصته الثابتة من الربح، ولا يتنازل عنها سواء تعذر السداد على المقترض أم لم يتعذر، أي أن القروض مضمونة السداد حين يرهن البنك ما تساوي قيمته ضعف مبلغ القرض.. وهذه مخالفة صريحة للشرع؟ وبهذا السؤال أختم.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: