مقدمة
تثير التحولات في السياسة الخارجية التركية منذ العام 2020، تجاه عدد من القضايا الإقليمية، ومساعيها لإعادة تطبيع علاقاتها مع منافسيها في المنطقة جملة من التساؤلات؛ أبرزها فيما إذا كانت هذه التحولات تكتيكية وتقع في خانة المناورات السياسية، أم توجهات استراتيجية تهدف للوصول إلى مستويات متقدمة من العلاقة مع مختلف دول الشرق الأوسط.
والمؤكد هنا، أن التغيرات التي طالت السياسة الخارجية التركية مدفوعة بمجموعة من المتغيرات النوعية؛ الداخلية والخارجية. أهمها: الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وتأثر علاقات تركيا الدبلوماسية إقليمياً ودولياً، وأفول نجم الإسلام السياسي الذي فضله حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان منذ انطلاق ما عرف بـ"الربيع العربي" عام 2011، ورغم كثرة الملفات التي شهدت تحولات ذات دلالة في المواقف والسياسات التركية، إلا أنّ متغيرين اثنين كانا الأبرز وهما: العلاقات التركية الإسرائيلية، وعلاقات تركيا مع الإخوان المسلمين.
العلاقات التركية الإسرائيلية
من بين العديد من التحولات في السياسة الخارجية التركية، تبرز مؤشرات كثيرة، إلى وجود اهتمام تركي في إعادة العلاقات السياسية مع إسرائيل، والتي يبدو أنها تسير باتجاه عودة سريعة بعد سنوات من التصعيد الخطابي المتبادل.
ففي 12 يوليو 2021، تحدث الرئيس التركي رجب أردوغان هاتفياً مع نظيره الإسرائيلي اسحق هيرتسوغ، وفي 20 يناير من العام الجاري، أجري اتصال مماثل بين وزير الخارجية التركي مولود أوغلو، ونظيره الإسرائيلي يائير لابيد، وكذلك اتصال رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت مع الرئيس التركي عقب إفراج أنقرة عن زوجين إسرائيليين اعتقلا في تركيا بتهمة التجسس في نوفمبر 2021 بحسب وكالة الأناضول التركية، وفي ديسمبر 2021، أشار الرئيس التركي خلال لقائه مع أعضاء الجالية اليهودية التركية وأعضاء تحالف الحاخامات في الدول الإسلامية، إلى "الأهمية الحيوية للعلاقات التركية الإسرائيلية في أمن واستقرار المنطقة".
وربما يشير كل ما سبق، إلى قرب تجاوز حالة الجمود السياسي أو العلاقات "الفاترة"، والتي وصلت إلى حدود تقترب من وصف العلاقة بـ"شبه العدائية"، لا سيّما وأنّ التصعيد العسكري المتكرر بين إسرائيل وحركة حماس في الأعوام 2012 و2014 و 2021، وفر أرضية خصبة لتنامي الخلافات السياسية بين الدولتين، في ظل خطاب سياسي تركي مندد بالسياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
ويُذكر أن المرحلة التي تلت ما يُعرف بـ"الربيع العربي" شهدت تزايد العلاقة التركية مع جماعات الإسلام السياسي، بشكل نظر له بعض المحللين بسياسة خارجية طموحة على مستوى الإقليم، وتستند أساساً على دعم جماعة الإخوان المسلمين.
مع ذلك؛ لم تشكل حالة الجمود السياسي في العلاقات التركية الإسرائيلية، علامة فارقة في مجمل تلك العلاقات، فقد واصلت الدولتين العلاقات على المستوى الاقتصادي، حيث بلغت واردات تركيا من إسرائيل 1.5 مليار دولار في عام 2020، وبحسب الأرقام التي أوردها موقع قناة "الحرة" بلغ حجم التجارة الخارجية بين تركيا وإسرائيل عام 2020 حوالي ( 6.2) مليار دولار، واحتلت تركيا المرتبة الرابعة بنسبة 6.2 في المائة في إجمالي واردات إسرائيل لعام 2020. علاوة على ذلك، استمر التنسيق والتعاون في مجالات الأمن والاستخبارات، حيث بقيت القناة الأمنية مفتوحة في إطار تبادل المعلومات الاستخبارية ذات الاهتمام المشترك.
علاقات تركيا مع الإخوان المسلمين
شهدت علاقات أنقرة مع الإخوان المسلمين تطورات متزامنة مع الانفتاح الذي يقوده الرئيس التركي رجب أردوغان، تجاه مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وهي الدول الثلاث التي تشترك في حظر الإخوان المسلمين من ممارسة النشاط السياسي والإعلامي.
ويبدو أن التقارب في العلاقات تزامن مع اتخاذ أنقرة خطوات عدة تجاه تقييد النشاط السياسي والإعلامي للإخوان المسلمين على أراضيها، فقد شهدت الفترة الماضية تضييقاً تركياً على الجماعة، بعد إيقاف أنشطتها الإعلامية، واتخاذ إجراءات وتدابير أمنية بحق عدد من أعضاء الجماعة من قِبل جهاز الأمن الداخلي التركي.
يأتي ذلك إلى جانب جملة من المتغيرات في طبيعة المقاربات التي حكمت علاقات أنقرة مع الإخوان المسلمين، ومنها:
أولاً: أن العديد من دول العالم أصبحت تدير ملفات الإخوان المسلمين تحت إشراف الأجهزة الأمنية لا سيما في أوروبا، ومن الواضح أن ملف الجماعة أصبح عبئاً أمنياً وسياسياً على تركيا.
ثانياً: أنها علاقة تطورت في إطار الأحداث اللاحقة لما يُعرف بـ"الربيع العربي"، وتراجعت نظراً لفشل تجربة الإخوان المسلمين في عدد من الدول العربية، ما دفع أنقرة لإعادة النظر في علاقتها مع الجماعة حتى لا تضاعف من حالة الاستنزاف السياسية والاقتصادية والأمنية المفروض عليها من دعمها لهم.
وثالثاً: تراجع تأييد الإخوان المسلمين في المسرح السياسي الدولي، خاصة أن العديد من الدول الغربية لم تعد ترى فيهم البديل الوسطي والموضوعي عن الجماعات الإرهابية، فضلاً عن بطلان الفرضية الغربية بأن الجماعة "إصلاحية" وتقف في وجه الفوضى، ذلك أن تجربتهم في السلطة ذهبت في اتجاه مناقض؛ مليء بالانقسامات والاستقطابات.
أسباب التحولات السياسية التركية
ترتبط التحولات السياسية التركية على الصعيد الداخلي بالأزمة الاقتصادية الحادة، والتي من أبرز مظاهرها انخفاض قيمة الليرة التركية، وازدياد معدلات التضخم وانخفاض مؤشرات الاستثمار وارتفاع الأسعار، فقد ارتفع معدل التضخم السنوي في تركيا إلى أعلى مستوى له منذ عام 2002، حيث نقلت وكالة "بلومبرغ" عن وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين النبطي إلى أن التضخم في تركيا قد يظل عند مستوى 40% لعدة أشهر، لكنه لم يستبعد أن يرتفع المؤشر إلى 50%.
وفي العام 2021 وبعد عدة تخفيضات متتالية في سعر الفائدة الرئيسي للبنك المركزي التركي، تزايدت وتيرة الانخفاض في الليرة التركية ما أثر بشكل سلبي على النظام المالي، ففي 23 نوفمبر 2021 شهدت الليرة التركية انخفاضاً بنسبة 18%؛ وهي النسبة الأعلى لانخفاض الليرة في العشرين سنة الماضية.
أما على الصعيد الخارجي، فقد تراجعت علاقات أنقرة مع حلفائها من الدول الغربية، حيث شهدت علاقاتها مع حلف الناتو توتراً بعد التصعيد مع اليونان في شرق المتوسط، والتوتر مع الحلف إلى جانب الولايات المتحدة حول صفقة صواريخ "إس 400" الروسية التي عقدها الرئيس أردوغان مع الرئيس الروسي، وفي نفس الوقت الذي لم تتقدم فيه العلاقات السياسية مع روسيا التي لا تخلو من المنافسة الجيوسياسية، مع ممارسة الطرفين سياسات متناقضة في سوريا وليبيا وحتى في البلقان وأوكرانيا.
أما العلاقات التركية العربية، فقد شكّلت تداعيات أحداث ما يُعرف "بـالربيع العربي" عام 2011 بروز محطات خلافية عدة بين أنقرة والعديد من الدول العربية، خاصة السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، حيث فُسرت التصرفات التركية في سوريا وليبيا والدعم المقدم إلى الإخوان المسلمين بأنه يستهدف سلامة الدول العربية.
مستقبل التحولات السياسية التركية وآفاقها
إن التساؤل المطروح حول مدى جدية القيادة التركية في الذهاب بعيداً في تحولاتها السياسية، وتحديداً تجاه ملفي علاقتها مع إسرائيل ومع جماعة الإخوان المسلمين، يكتسب مشروعية في ضوء سوابق تاريخية عنوانها التغيرات السريعة في توجهات السياسة الخارجية التركية تجاه العديد من القضايا.
وبناء على ما سبق، فإنّ معطيات تفاقم الأزمات الداخلية وعناوينها الاقتصادية، والانتخابات العامة القادمة والمقرر إجراؤها في يونيو 2023، والمخاطر الجديدة على الصعيدين الداخلي والخارجي بالنسبة لتركيا، والتي قد يكون من أبرز تداعياتها التأثير على فرص فوز حزب العدالة والتنمية، هو ما يفسر التوجه التركي لاقتراح سياسات جديدة تفضي إلى تهدئة الملفات الساخنة، وتتجاوز هدف احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية، وهو ما يعني أنّ هذه التحولات الجديدة فرضتها مستجدات تجعلها خارج أطر المناورات السياسية وتحقيق المكاسب الآنية.
إن استمرار التحولات السياسية التركية في المدى المنظور، ولحين إجراء الانتخابات العامة القادمة "على الأقل" سيكون السيناريو الأكثر احتمالاً وترجيحاً في التنفيذ، وربما يجد ترجماته في ساحات متعددة لتركيا أدوار فيها، أو على مستوى علاقاتها الدولية والإقليمية، عبر سلسلة مواقف وقرارات، ربما لا تقل عن اندفاعات أنقرة باتجاه تل أبيب من خلال تجاوز الأزمة السياسية الأخيرة وعودة العلاقات إلى سابق عهدها الدافئ نسبياً، في نفس الوقت الذي تعمل فيه على إعادة ترتيب شكل العلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين، بحيث تبدو أكثر توازناً من الناحية السياسية، وأقل انحيازاً من الناحية الحزبية، وأشدّ سيطرة من الناحية الأمنية، وربما تذهب بعيداً نحو مستويات أعلى من التعاون والتنسيق مع روسيا، خاصة فيما يتعلق بالملف السوري، وبما لا يشكل تهديداً لعلاقات تركيا الاستراتيجية مع حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: