مقالات رأي

السلام عليكم.. يهوداً ومسلمين ومسيحيين

مقال رأي| في ظل اتفاقية السلام التي عُقدت مؤخراً بين دولتي الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، يتناول المقال مدى فعالية هذه الخطوة وانعكاساتها الإيجابية على أكثر من صعيد.

الكاتب: حسن إسميك
تاريخ النشر: 18/08/2020
الناشر - إيلاف

قلت في أكثر من مناسبة أن مقدار الشجاعة لإعلان السلم يفوق أضعاف شجاعة إعلان الحرب، خاصة في زمن كثر فيه من يعلنون الحرب ولا يحاربون، ويدّعون الانتصارات الزائفة وهم مهزومون، ليس عسكرياً فحسب، بل وفي الاقتصاد والثقافة والديبلوماسية أيضاً، وما تاريخ أغلب بلدان العرب منذ منتصف القرن الفائت إلا دوامة من الانكسارات والهزائم والأوهام التي أفقرت البلاد وهجّرت العباد وضيّعت الفرص ودمّرت الإمكانات والمقدرات.

عزمت على الكتابة في هذا الموضوع مباشرة بعد الإعلان عن "اتفاقية السلام" بين دولتي الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، لكن مراقبتي لردود الفعل الرافضة من جهات عربية وأخرى إقليمية، بعضها رسمي، وبعضها الآخر شبه رسمي، جعلتني أتمهل قليلاً لأتتبع أين ستنتهي ردود الفعل هذه. والآن، وبعد مضي بضعة أيام عدت لأكتب ما كنت سأكتبه منذ البداية، وما أعتقد أني سأكتبه ولو بعد أعوام، وليس مقالي هذا دفاعاً عن السياسة الإماراتية الخارجية وديبلوماسيتها النشطة والرائدة، فهي أقوى من أن تحتاج لهكذا دفاع، كما أنه ليس تبريراً لخطوتها الجريئة والشجاعة، فالقرارات الصائبة والحكيمة هي التي تبرِرُ ولا تبرَر، وهي التي ستشرّع لما يليها من خطوات لاحقة ستمثل الطريق الواضح لسلام دائم يعمّ المنطقة ككل.

ظهرت ردة فعل أعداء السلام على الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي سريعاً، خاصة من طهران وأنقرة اللتين رغم اختلاف موقفيهما في الظاهر من إسرائيل، يبقى الهدف البراغماتي لديهما واحداً يندرج ضمن بروباغاندا التوسع الإقليمي غير المشروع، والتدخل في شؤون دول المنطقة، تارة بحجة العداء لإسرائيل، وتارة بحجة رعاية الفلسطينين ونصرتهم. ولأننا لن نتطرق لمناقشة البديهيات هنا، يكفي أن نذكر أن أنقرة ملتزمة بتبادل كامل التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل، ومستفيدة من حجم التبادل الاقتصادي الذي يبلغ مليارات الدولارات، أما طهران فما زالت تدق طبول الحرب على تل أبيب منذ أربعين عاماً، ولا أحد يرى طحيناً.

ولقد تعرض الفلسطينيون للاستغلال ليس من قبل هذين الطرفين فحسب، بل من أطراف أخرى كثيرة، تاجرت بفلسطين وأهلها بالمعنى الحرفي للتجارة، بعضهم رأى في حالة الاحتراب المفترضة مع إسرائيل بوابة لتحقيق حلم الزعامة العربية، وبعضهم الآخر اتخذ من هذه الحالة مصدر دعم سياسي ومورد مالي، ناهيك عن اتخاذ إسرائيل شماعة يعلَّق عليها كل فشل اقتصادي أو تنموي، أو حجة لقمع الحريات ورفض الإصلاحات، بل وحتى التدخل في شؤون الدول الأخرى واحتلالها أحياناً. وقد أصبح يقيناً أن الحرب ضد إسرائيل لن توحد العرب، ولم يعد يُرجى منها أن تحسّن العلاقات بين الدول العربية في أقل تقدير، أفليس السلام هو الطريق البديل لتضامن العرب وتكاتفهم بعدما أثبت تاريخهم المعاصر أن العداء الذي استفحل بينهم بسبب إسرائيل تجاوز العداء لإسرائيل ذاتها!

ولقد أصبحت موقناً تماماً أن خير السلام سيعمّ على العرب وفيما بينهم أكثر مما سينال الإسرائيليون منه، فالعرب اليوم، مجتمعين أو متفرقين، يعانون بشكل جليّ وواضح، من غياب أي مشروع استرتيجي خاص بهم، إقليمياً أو عالمياً، في حين أن المنطقة العربية أصبحت هدفاً سهلاً للمشاريع الإقليمية والدولية، مع أن أغلب هذه المشاريع يهدد وجود العرب أنفسهم كأمة تمتد جذورها في قلب التاريخ، ولا يخفى على أحد الاطماع الفارسية من جهة، أو التوسع التركي الجديد من جهة أخرى، أو النفوذ الروسي المستجد من جهات متعددة، ولا يستثنى من ذلك أيضاً مشاريع إحياء الحقبة الاستعمارية المنصرمة ولكن بصيغ أكثر حداثة ومعاصرة. لأجل ذلك كله.. أفليس حل مشكلة الصراع المركزية في المنطقة على أسس إحلال السلام مقابل السلام هو البوابة الضرورية لقيام مشروع عربي قادر بقوة أطرافه واستقلال قرارها وتدعيم سيادتها على إفشال المشاريع والتدخلات الخارجية أي كان مصدرها؟

إن ميثاق السلام اليوم بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل هو الثالث عربيا بعد اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن، وهو الأول من نوعه لأنه لا يأتي بعد أي حرب بين الدولتين، لذلك فإن هدفه يتعدى مجرد سلام الحرب الذي يأتي لإيقاف الاقتتال وإنهاء الصراع، ويصبو مباشرة نحو شراكة إقليمية مفتوحة وواعدة، تتطلع كما هو متوقع الآن نحو توسيع اطرها أفقياً وعمودياً، بحيث تحذو دول أخرى حذو الدولتين من جهة، وتتوسع أطر الشراكة لتشمل الاقتصاد والتعليم والتقافة والتنمية من جهة أخرى. غير أن تحقيق ذلك مرهون في الدرجة الأولى بالنية الصادقة والإرادة العازمة لدى جميع الأطراف، سواء التي التحقت بقطار السلام حتى الأن، أو التي ستلتحق بها قريباً، وربما قريباً جداً. وهذا يؤكد أن ما أعلنته الإمارات وإسرائيل يمثل نقطة بداية وليس محطة نهاية، لذلك سنرى مستقبلاً مواقفاً وأحكاماً أكثر نضجاً من تلك التي صدرت عن بعض الرافضين هنا أو هناك، وخاصة من الجانب الفلسطيني الرسمي الذي اختبر صدق دعم الإمارات للفلسطينيين حكومة وشعباً وسلطة ذاتية.

لقد عانى الفلسطينيون من إسرائيل كثيراً، نتيجة الصراع في ظل اختلال موازين القوى الذي بات يزداد يوماً بعد يوم لصالح إسرائيل، لكن الفلسطينيين عانوا أكثر من ذلك نتيجة سوء الإدارات المتعاقبة التي فرضت أجنداتها الخاصة عليهم، بالإضافة إلى اقتتال فصائلهم فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين بعض الدول العربية من جهة أخرى، كما حدث في سورية ولبنان والأردن ومصر، حتى لقد جاوزت الخلافات الفلسطينية الفلسطينية، والخلافات الفلسطينية العربية، بصراعاتها وصداماتها ومشكلاتها، الصراعات والصدامات التي كانت بين الفلسطينيين والإسرائيلين منذ 1948 حتى الآن. لذلك فالأمل كبير الآن، وبعد أن أصبحت الإمارات فاعلاً سياسياً موثوقاً ومرحباً به لدى الطرفين، أن يؤتي هذا الاتفاق خير ثماره بالنسبة للفلسطينيين بالدرجة الأولى، فيساهم في حفظ أرواحهم وتطوير مجتمعهم واستعادة الحياة الطبيعية التي باتت مطلب كثيرين ممن أدركوا أن لا ناقة لهم ولا جمل في أتون هذا الصراع.
خلال الأيام القليلة الماضية، أُتيح لي الاستماع إلى كثير من الآراء المعارضة للسلام الإمارتي الإسرائيلي، أغلبها فج وانفعالي ومنفّر، وقليل منها هادئ لا يخلو من عتب مشبوب بالحب، لكن الحجة الرئيسية لدى جميع المعترضين ترتكز على نقطة واحدة، وهي أن هذا الاتفاق اعتراف بإسرائيل كدولة، أما بقية حججهم فتفاصيل تكاد لا تخرج عن هذه النقطة الوحيدة في شيء. وأنا هنا ما زلت أعبر عن أسفي على وعي سياسي قاصر ما زلنا بسببه نختبئ خلف إصبعنا، وعلى منطق رغبوي مغلوط يرفع التوهمات والأمنيات فوق مستوى الحقائق والمعطيات الملموسة، وعلى إدراك مشوه بناه العرب سابقاً على أساس مغالطة منطقية مفادها، أن تغيير الأسماء والمفردات سيؤدي إلى تغيير الوقائع والأشياء، وكأننا إذا لم نُسمِّ اسرائيل دولة وسميناها محتلاً فحسب فإن صفة الدولة ستسقط عنها. وفي الحقيقة فإن أي استخدام لمصطلح الدولة في وقتنا الحالي هو اعتراف بمفهوم الدولة كما يقره الخطاب السياسي العالمي، والذي ينطبق على إسرائيل (سواء شعرنا بالأسف لذلك أم لم نشعر) من جهة كونها واقعاً ملموساً على الأرض، ومعترَفاً به في هيئة الأمم، وعلى علاقة ندية بكثير من الدول التي لا أحد ينكر وجودها وسيادتها، سواء على المستوى العالمي، أو الإسلامي، أو العربي، وما إصرار البعض على عدم الاعتراف هذا إلا متاجرة وإنكار للواقع لن ينعكس بالسلب إلا على صاحبه وحده، مثله كمثل من يأكل في منامه أطيب الطعام، غير أن الأكل في المنام لا يُشبع.

أخيراً.. يعرف عني جمع غفير من القراء والمتابعين حديثي الذي تكرر كثيراً عن الطريق الثالت، والذي ما زلت أنادي فيه إلى مخرج مبني على أسس واضحة وصريحة، يوفر لمنطقتنا، بكل مكوناتها وشعوبها، حياة كريمة ومنتجة، ويمهد السبيل لانطلاق عجلة التنمية والحضارة، خصوصاً لدى المجتمعات التي تزداد معاناتها يوماً بعد يوم، إما نتيجة حكم فاسد، أو فقر مدقع، أو صراعات سياسية وغير سياسية، وكنت أشدد دائماً على أن إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي على أسس السلام الدائم هو الشرط الضروري الأول لتحقيق ذلك، وأنا مؤمن اليوم أن الخطوة الإماراتية تتصف بالواقعية السياسية الحكيمة، وتمثل الأساس الواعد للسير في هذا الطريق الذي أتمنى أن يتوسع أكثر فأكثر، ليلتحق به كل محبي الحياة وداعمي السلام، ولا يتخلف عنه إلا المتخلفون... والسلام عليكم.

YOUR_SUBSCRIBTION_COULDNOT_BE_SAVED
Your subscription has been successful. YOUR_SUBSCRIBTION_HAS_BEEN_SUCCESSFUL

حسن إسميك
الكاتب: حسن إسميك رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS