هذه الورقة جزء من سلسلة: الإسلام السياسي تحت المجهر
تجسد جملة من المشتركات الأيديولوجية والعلاقات التاريخية بُنية وهوية التقارب ما بين جماعة الإخوان المسلمين وإيران منذ إرهاصات "الثورة الإسلامية" عام 1979، حيث تتلاقى المفاهيم الأيديولوجية والأفكار والمرجعيات عند الإسلام السياسي- السني والشيعي- برغم اختلاف مذاهبه، وتناقلته وأثرت وتأثر به طرفا العلاقة.
لقد تأثر الإسلام السياسي في إيران بحسن البنا وسيد قطب والمودودي وغيرهم كما انعكست الثورة الإيرانية على نهج ومسارات جماعات الإسلام السياسي السنية في المنطقة، ويمتلك الطرفان المواقف والتصورات السياسية عينها تجاه العلاقة مع الغرب، والمقاربة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكلاهما يلتقي في محورية البُعد الديني والخطابي والموقف من الدولة الحديثة.
وفي هذه الورقة نلاحظ ثلاث مشتركات رئيسية، تشكل إطار العمل والنشاط العام لكل من إيران والإخوان المسلمين بشكل خاص، تمثل الدعوة إلى الوحدة الإسلامية أهمها، إلى جانب النظرة التوسعية التي تتجاوز الأوطان والحدود الجغرافية، و"إقامة الخلافة الإسلامية واستعادتها" باعتباره الهدف النهائي والغاية من العمل السياسي، وبناء على هذه المشتركات تشكل الدافع والحافز لدى الطرفين لتقريب العلاقات والتعاون وحتى التأثير في فكر وسلوك كل طرف للآخر.
أولاً: الدعوة للوحدة الإسلامية
تعمل إيران منذ عقود على تعزيز علاقاتها بكل الدول والمذاهب الإسلامية المختلفة في كافة أنحاء العالم، من أجل فرض المزيد من الهيمنة والنفوذ بها لخدمة مشروعها السياسي الذي ظهرت نماذجه في دول مثل العراق ولبنان وسوريا. وقد اتجهت لتوظيف جميع الأدوات الممكنة لتحقيق هذا الغرض الاستراتيجي بعيد المدى، مثل إنشاء "مؤتمر الوحدة الإسلامية" بدعوة من قبل المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بإيران.
ويأتي انعقاد هذا المؤتمر بشكل سنوي، خلال أيام المولد النبوي أو ما يسمى أسبوع "الوحدة الإسلامي"، ما بين 12 – 17 ربيع الأول، وتأسس في عام 1981، باقتراح من آية الله منتظري وبموافقة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الخميني.
وهكذا دعوات إيرانية للوحدة الإسلامية تلتقي مع نظيرتها من دعوات تيارات الإسلام السياسي، والتي تمثل أبرز محددات عملها السياسي والدعوي معاً. لذلك، عند استعراض الخطاب السياسي لأي من الجانبين نجد أنه لا يخلو من الدعوة لتوحيد الأمة الإسلامية في مواجهة أعدائها "الافتراضيين" ومن أجل نشر فكرها على الصعيد العالمي.
وفي هذا السياق، يجدر الإشارة إلى آراء رموز الكتاب الإسلاميين التي تدعم فكرة الوحدة الإسلامية كما تروج لها إيران وتؤيدها تيارات الإسلام السياسي، ومنهم الكاتب الإسلامي السوري محمود شاكر الحرستاني والذي يقول في كتابه (التاريخ الإسلامي): "لا ترتبط الأمة ببقعة من الأرض معينة، وإنما ساحة عمل الأمة المسلمة الأرض كلها، فحيثما تمكنت من إقامة حكم الله فذلك مقرها الأول ونقطة انبعاثها، وبعد ذلك تتوسع دائرتها منه بالدعوة، ونشر الفكرة والجهاد حتى تشمل الأرض جميعها، وما دامت الفكرة لا تعم الأرض كلها، ولا تحكم العالم كافة بما أنزل الله فمهمة الأمة باقية، وعليها واجب كبير وهو الجهاد في سبيل الله حتى تتمكن من تطبيق منهج الله في الأرض قاطبة" [1].
ثانياً: الخلافة الإسلامية
بالرغم من الاختلاف التاريخي القائم على طبيعة مصطلح "الخلافة الإسلامية" أو "الإمامة" بين الجانبين، السني والشيعي، إلا أن الدافع السياسي والبراجماتي يقرب بين الجماعتين في هذه الفكرة، حتى وإن اختلفت الأدوات المستخدمة في تحقيقها، كما ازداد الحديث عن تلك الفكرة وضرورة تحقيقها عقب سقوط الخلافة العثمانية مباشرة في عام 1924.
وكانت جماعة الإخوان المسلمين من أبرز الداعين إليها، وظهر ذلك من خلال رسائل مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، وبخاصة رسالة المؤتمر الخامس تحت عنوان "الإخوان المسلمون والخلافة" والتي قال فيها: "ولعل من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة وما يتصل بها، وبيان ذلك أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله" [2].
وعلى نهج جماعة الإخوان نشأت العديد من حركات الإسلام السياسي في كل الدول الإسلامية، لا سيما في إيران خلال خمسينات القرن الماضي، وتبناها وانتمى إليها رجل الدين الشيعي حينئذ "مجتبى ميرلوحي"، المعروف باسم نواب صفوي، مؤسس منظمة "فدائيان إسلام" الأصولية الإيرانية، المشابهة في النهج والتنظيم لجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما أكد الترابط والتداخل المبكر بين تياري الإسلام السياسي في مصر وإيران، منذ أن بدأ مع زيارة الإمام الخميني مصر والتقى مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا عام 1939 [3].
وبمرور الوقت تحول مصطلح "الخلافة" الإسلامية إلى "الدولة الإسلامية" والذي لم تلتق فيه فقط تيارات الإسلام السياسي وإيران، إنما شمل أيضا الجماعات الجهادية العنيفة مثل تنظيمي "القاعدة" و "داعش"، والذي ينبني عند السنة على مبدأ "الحاكمية" الاعتقادي والأيديولوجي، المماثل والمتماهي مع مبدأ "ولاية الفقيه" عند الشيعة في عهد الثورة الخمينية، ولم يكن موجودا قبلها، ويلتقي بناء عليه المواقف والتصورات من المجتمع ومن العدو المشترك وغيرهما.
ثالثاً: الطموحات التوسعية
يَعتبر خصوم إيران، أن التوسعية ونشر أفكار "الثورة الإسلامية" يهيمنان على سياساتها الخارجية، وفق مبدأ "تصدير الثورة" الذي جعله الخميني أول مبادئها وقضاياها، ويرون أنها تستغل بؤر النزاعات والخلافات في منطقة الشرق الأوسط لتثبيت أقدام وكلائها، وتقويض نفوذ خصومها. ويضيفون أن هدفها النهائي هو إنشاء "حزام" موال لها متجاوز للحدود القومية، يمتد من إيران إلى لبنان ويشمل العراق وسوريا، أي شيء مماثل لطموحات الإمبراطورية الفارسية قديماً، لكن هذه المرة بصبغة خاصة تستند إلى كل من أيديولوجيتها الثورية، والولاء للمرشد الأعلى. وهذا سيناريو يثير القلق الشديد لدى جيران إيران، ويدفعهم أحياناً إلى العمل على منع تحققه.
حيث تتمحور السياسة الخارجية الإيرانية لخدمة أهدافها التوسعية، الذي يشمل من النواحي الاستراتيجية "العالم الإسلامي"، ولذلك تستهدف إيران المبادئ الإسلامية العليا بمعزل عن الاختلافات المذهبية، عند مخاطبة عموم المسلمين، وهذا النهج متبع منذ "الثورة الإسلامية" عام 1979، ويحمل أجندتها بطبيعة الحال.
وبالنظر إلى الحركات الإسلامية، نجد أنها قاومت المنحى المذهبي في بداية نشأتها وعملها، فقد كان لمؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا، مساهمات في الحوار السني الشيعي، وقد ترسخ ذلك في مواقفهم حول العديد من القضايا الإقليمية حين ذاك، على سبيل المثال تأييدهم ما تُعرف بـ "ثورة الدستور" في اليمن عام 1948، التي أنتجت ميثاقاً وطنياً غير من طبيعة نظام الدولة إلى منهج إسلامي يجمع الأسس الفكرية عند الشافعي والزيدية.
وبالقدر نفسه، كان هناك ترابطٌ يجمع ما بين الإخوان المسلمين، وحزب الدعوة بقيادة محمد باقر الصدر، ويُذكر أن كُتابات الصدر وخطبه كانت متداولة بين الإسلاميين، وكذلك كانت أفكار كل من سيد قطب والمودودي بالنسبة لأتباع حزب الدعوة.
لكن؛ تأثرت العلاقة بين طرفي الإسلام السياسي (السني والشيعي)، بصعود حركات السلفية الجهادية، ومواقفها المتطرفة تجاه الآخر، الأمر الذي أعاد العلاقات المذهبية وفقاً لقاعدة الربح والخسارة كما كانت عليه تاريخياً، وقد انعكس ذلك على بؤر الصراعات والتنافسات حول السلطة والموارد، وبرزت بشكل أكثر تحديداً بعد حرب العراق عام 2003 ثم الأزمة السورية عام 2011 [4].
"الثورة الإسلامية" ودور الإخوان المسلمين فيها
كان للثورة الإسلامية في إيران علاقات متشعبة بتيار الإسلام السياسي في العالم العربي خارج إطار جماعة الإخوان المسلمين، مثل علاقتها بحركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني التي كانت تصف نفسها في مراحلها المبكرة بـ "أنصار الثورة الإسلامية في فلسطين". حيث تأثر فتحي الشقاقي الأمين العام السابق للحركة بشكل كبير بثورة الخميني في إيران، وكان يرى أن الخميني أطلق الصحوة الإسلامية في المنطقة وفي العالم.
ولا يخفى في هذا السياق، أن إيران تمتعت كذلك بعلاقات وثيقة أيضًا مع حركات إسلامية أخرى على الساحة الفلسطينية غير حركة الجهاد الإسلامي، وعلى رأسها حركة حماس، كما تزعمت إيران في هذا الإطار ما سمي بمحور "المقاومة" في المنطقة [5].
ويُذكر أن الإخوان المسلمين كان لديهم تواصل مع رجال الدين الإيرانيين، الذين أصبحوا فيما بعد فاعلين في "الثورة الإسلامية"، ووفقاً لمصادر إعلامية شكلت علاقات حسن البنا مع القادة الدينيين الإيرانيين، بذرة "الثوار" و"الثورة الإسلامية" لاحقاً، من أمثال نواب صفوي، والذي تمت دعوته إلى المؤتمر الإسلامي لتحرير القدس عام 1953، من قِبل سيد قطب، علاوة على دعوة لاحقة من جماعة الإخوان المسلمين لصفوي لزيارة مصر، ويُنقل قوله خلال لقائه مصطفى السباعي مراقب الجماعة في سوريا؛ "مَن أراد أن يكون جعفريًّا حقيقيًّا فلينضم إلى صفوف الإخوان المسلمين"، ويُشار إلى أن المرشد الأعلى الإيراني الحالي، علي خامنئي، قد دخل إلى السياسة عبر صفوي، وهو – أي خامنئي- أحد المعجبين بسيد قطب [6]، حيث ترجم كتابين من كتب سيد قطب؛ وهما: "هذا الدين" و"معالم في الطريق".
ويتضح من ذلك أن مفاهيم الحركة الإسلامية الإيرانية وثورتها تأثرت بشكل أو بآخر في فكر جماعة الإخوان المسلمين، فإلى جانب صفوي تعاون نشطاء آخرون مع جماعة الإخوان المسلمين، وكان لهم دوراً بارزاً في تمكين الحركة الإسلامية الإيرانية من الوصول إلى السلطة، ومن بين هؤلاء إبراهيم يزدي حيث كان ممثلًا لزعيم الثورة، وأول مرشد للجمهورية الإسلامية روح الله الخميني، وأصبح وزيراً للخارجية في أول حكومة بعد الثورة عام 1979.
وظلت العلاقة ما بين الإخوان المسلمين وإسلاميون إيران مستمرة بعد نجاح الثورة، فقد تأسس "حزب الإصلاح" التابع للإخوان المسلمين في طهران ورأسه حين ذاك عبد الرحمن بيراني، وفي الواقع تركت الثورة الإسلامية في إيران أثراً في جماعات الإسلام السياسي لا سيما الإخوان المسلمين، حيث يذكر الدكتور منوشهر محمدي، المسؤول في وزارة الخارجية الإيرانية في كتابه: تداعيات الثورة الإسلامية في العالم الإسلامي؛ "لقد استطاعت الثورة الإسلامية أن تترك تأثيرها في حركة الإخوان المسلمين بدرجة ما، بحيث إن الأمانة العامة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين في مصر، بادرت إلى الاتصال بمسؤولي الثورة الإسلامية الإيرانية بمجرد انتصارها، هنأت إيران بانتصار الثورة"، مضيفاً أن "جماعة الإخوان المسلمين؛ قامت في سنة 1979؛ بنشر كتاب يحمل عنوان: البديل الإسلامي، معتبرة أن أسلوب الخميني والجمهورية الإسلامية؛ يمثل طريق الحل الإسلامي للخلاص من الأنظمة العميلة" [7].
وقد نشرت مجلة الدعوة المصرية (المنبر الرئيسي للإخوان في مصر) حين ذاك تصريحاً لأبي الأعلى المودودي رداً على سؤال وُجه له حول الموقف من الثورة الإيرانية قائلاً: "ثورة الخميني ثورة إسلامية، والقائمون عليها هم جماعة إسلامية، وشباب تلقوا التربية في الحركات الإسلامية، وعلى جميع المسلمين عامة والحركات الإسلامية خاصة أن تؤيد هذه الثورة، وتتعاون معها في جميع المجالات" [8].
وبالمقابل؛ وظفت إيران علاقاتها مع جماعات الإسلام السياسي في سبيل تحسين علاقاتها وترسيخ نفوذها في العالم الإسلامي، وإلى أبعد من ذلك يتخذ الطرفان موقفاً موحداً من الوجود الأمريكي في المنطقة، وتريد إيران نصيراً عابراً لحدودها في مقاومة هذا الوجود، فضلاً على دور تيارات الإسلام السياسي في التوسط ما بين طهران والجماعات الإسلامية الراديكالية أو ذات التوجهات السلفية، والتي تنظر لإيران بوصفها قوة مناوئة لها في الشرق الأوسط.
أما بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين، فترى في علاقاتها مع إيران مصلحة لتقديم نفسها بوصفها جماعة تنادي وتطالب بالوحدة الإسلامية، للضغط على الدول العربية وبشكل خاص تلك التي تتخذ موقفاً معارضاً من السياسات التوسعية الإيرانية، لكن نظراً لتطورات ما يعُرف بـ "الربيع العربي" أصبحت الجماعة مضطرة أن تقيد حجم علاقاتها وتعاونها مع إيران، ومخاوفها من موقف الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا التي تسود عندها صورة سلبية عن سياسات إيران الخارجية، مع ذلك بمجرد أن وصلت الجماعة للسلطة في مصر عام 2011، سارعت إلى إجراء اتصالات مع إيران [9].
الثورة الإسلامية وصحوة التطرف الراديكالي
مثلت "الثورة الإسلامية" ونجاحها في العام 1979 حافزاً وزخما راديكاليا غير شكل المنطقة وتوجهاتها وأنماط حياتها وأنظمتها التشريعية والاجتماعية والاقتصادية على السواء، وشكلت تاريخياً فاصلا مهما جوهريا، ليس فقط في تاريخ إيران، ولكن في تاريخ المنطقة والعالم.
فقد وصف الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، غداة لقائه بـ الخميني في ديسمبر 1978 في باريس قبل أسبوعين فقط، من خروج الشاه من إيران في 16 يناير عام 1979، بتأسيس مجلس الثورة الإسلامية في اليوم نفسه، بأنها تبدو: "كرصاصة انطلقت من القرن السابع واستقرت في قلب القرن العشرين".
مع نجاح "الثورة الإسلامية" وإرساء نموذج المرشد الأعلى، الذي أطرت وأسست له أدبيات الإخوان المسلمين، بدأ فصل جديد في المنطقة والعالم، وشكل منطلقاً لما بات يطلق عليه "الصحوة الإسلامية"، تزامناً مع فشل مشاريع القومية واليسارية، في تحقيق أطروحاته بالتحرر والتخلص من التبعية، بعد أن حكمت طيلة خمسينات وستينات القرن الماضي، وواجهت سلسلة من الانتكاسات كان من بينها الهزيمة العربية في حربي عام 1948، و1967.
لقد شكلت "الثورة الإسلامية" قمة السنام للصحوة الإسلامية، بعد أن أعادت مفاهيم الحكم الإسلامي إلى الخيارات والبدائل السياسية في المنطقة، ونجحت في تنصيب أول زعيم ديني منذ سقوط الدولة العثمانية عام 1924.
وكانت بمثابة الحافز والدافع الرئيسي لجماعات الإسلام السياسي قاطبة، للفعل والنشاط والتوحد، لتحقيق أهدافها في أسلمة المجتمعات، ومواجهة النظم الحاكمة، وتأسيس خطابها الاحتجاجي الثوري المزايد على الحكومات، وقد طال تأثير "الثورة الإسلامية" ليشمل الجماعات المدعومة من إيران، أو تلك المتعاطفة مع تجربتها، وحتى الجماعات المختلفة معها مثل الجماعات السلفية والمتطرفة التي سعت لتكرار ما حدث في إيران، ونشطت تعبر عن نفسها ونشاطها وتزايد على الحكومات والجميع في التوجه نحو مزيد من التشدد.
مصادر التأثير الراديكالي لثورة الخميني
أولاً: النجاح الأول لحركات الإسلام السياسي في القرن العشرين
كان نجاح ثورة الخميني الإسلامية، أول نجاح تحققه حركة إسلام سياسي في إقامة دولة لها وفق مرجعيتها ورؤيتها الصراعية والتوسعية للمنطقة والعالم، وكانت مصر ودول الخليج وباكستان أهدافاً رئيسة في خطاب الخميني، وقد اتضح ذلك في مقابلة مؤرشفة أجراها مع الإعلامي مايك والاس لشبكة CBS، عقب نجاح الثورة الإسلامية، حيث وصف الخميني الرئيس المصري أنور السادات بما يلي: "السادات يدّعي أنه مسلم، وأننا لسنا مسلمين، هو ليس بمسلم! هو يتعامل مع أعداء الإسلام! السادات وضع يده في يد أعدائنا! (في إشارة إلى اتفاق السلام مع إسرائيل) وهو يعلم جيدا ما يحدث في جنوب لبنان ومع الفلسطينيين! هو يعرف جرائم الإسرائيليين! إلا أنه يعتبر نفسه مسلما على الرغم من ذلك! هو كافر بلا شك!".
كما يتضح ذلك أيضا في لقائه الثاني مع الصحفي المصري الراحل الأستاذ محمد حسنين هيكل، حيث يدعو الشعوب الإسلامية، وخاصة الشعب المصري للثورة على الحكام وتغييرهم واستلهام ما حصل في إيران، حيث يقول الخميني: "إنني أيس من الحكومات أما بالنسبة للشعوب فالأمر مختلف، فالشعب المصري له حكم و "أنور السادات" له حكم آخر، وكذلك سائر الشعوب بالنسبة لسائر الحكومات".
وقد كان لذلك الخطاب تأثير في الجماعات الإسلامية المتطرفة في مصر على وجه الخصوص، حيث يقول أيمن الظواهري زعيم القاعدة الحالي و أمير تنظيم الجهاد المصري: "أخذ نشاط هؤلاء الشباب ينتقل بعد السيطرة على الجامعة إلى العمل الجماهيري خارج الجامعة وكان من أهم أنشطتهم المظاهرات والمؤتمرات الحاشدة اعتراضاً على الصلح مع إسرائيل وعلى استقبال السادات لشاه إيران في مصر" [10]، ولعل الفتوى سابقة الذكر من الخميني أسبق من فتوى منظر الجهاد المصري محمد عبد السلام فرج في كتابه" الفريضة الغائبة" التي اعتبرت صك لاغتيال السادات من قبل الجهاديين.
ثانياً: أول دولة بصفة إسلامية بعد سقوط خلافة العثمانيين سنة 1924
وهي دولة يحكمها رجال الدين، ويتولى الولاية فيها الفقيه، ما جعلها نظاماً مركزياً يتحدث باسم المسلمين جميعاً، وتخوض "جهاداً مقدساً" كما ترى مع كل مختلف، وهي نتاج تلاقي تصور الخميني وتصور سيد قطب، على أن هذا الدين تحمله الطلائع المقاتلة من المجاهدين، ويؤكد الخميني على هذا التصور الأحادي العنيف للإسلام حيث يقول: "الإسلام هو دين المجاهدين" [11].
ثالثاً: عقيدة تصدير الثورة للعالم الإسلامي
لم يكن طموح الخميني وطنيا فحسب، بل كان يرى الوطنية صنما وطاغوتا كما يراها سيد قطب وسائر منظري التطرف، ورأى نفسه وثورته رسالة أممية وعالمية، وقد أكد الخميني ذلك، في الذكرى الأولى للثورة الإسلامية في 11 فبراير عام 1980 قائلا:" إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم، لأنها ثورة إسلامية".
ولطالما وجه الخميني خطابه للشعوب العربية والإسلامية داعياً إياها للثورة على حكامها، وقد خاطب الخميني بعد نجاح الثورة الإيرانية بقليل الشعب المصري قائلا: "على الشعب المصري أن يعلم أنه لو ثار كما ثار الشعب الإيراني فإنه سوف يحبط المؤامرات وسوف تنتصرون، وعلى شعب مصر ألا يخاف حكومته، وألا يعير اهتماما لقوانينها، فكما كسر شعبنا حاجز الخوف، وحظر منع التجول عليه أن يملأ الشوارع والطرقات".
رابعاً: سياقات دولية وإقليمية مساعدة: احتلال أفغانستان وانطلاق عملية السلام
كانت السياقات الدولية، وخاصة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان سنة 1979، وانطلاق ما عرف بالجهاد الأفغاني فيما بعد، وكذلك انطلاق عملية السلام المصرية مع إسرائيل سنة 1978، وما استثارته هذه الأحداث من مشاعر لدى الأمة، فقد شكلت فرصة ذهبية لأن يجد خطاب الخميني وشعارات الثورة الإسلامية الإيرانية فرصتها القوية وتأثيرها العميق في مختلف بلدان العالم الإسلامي.
إذن؛ يمكن القول إن هناك العديد من الدلائل التي تربط ما بين الثورة الإسلامية الإيرانية والأفكار الراديكالية، حيث أدت الأولى إلى اتساع تأثير وفضاءات التطرف والتشدد في مختلف أوجه الحياة، وقد كان الأثر الأكبر للثورة الإسلامية ماثلاً في سلوك الجماعات المتطرفة على وجه الخصوص، فقد اندفعت مجموعات "الجهاد المصري" لتتوحد في تنظيم واحد بقيادة محمد عبد السلام فرج بعد نجاح ثورة الخميني، الأمر الذي نتج عنه فيما بعد اغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981.
انفجرت موجات التأثير الراديكالية والتشدد في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، بزخم نجاح ثورة الخميني وخطابه، وبفضل انبهار قطاعات عريضة فيه- من مختلف الاتجاهات- بطرحه الشعبوي والشعارات التي تحتكر الإسلام وتحتكر الحديث باسم الأمة وطوائفها جميعا، وليس المرجعية الإمامية فقط رغم انطلاقه منها وإلحاحه عليها.
وبناء على ما سبق، لقد التقى الإخوان المسلمين وإيران في دعوات أسلمة القوانين والمجتمعات، وقد كان لذلك تأثير على العديد من الدول العربية، وبشكل خاص من مخاطر تكرار نموذج الثورة الإسلامية في إيران، وهو النموذج الذي تسعى جماعة الإخوان المسلمين لتطبيقه في مناطق نشاطها كما ظهر بشكل جلي بعد ما يعرف بـ"الربيع العربي"، إلا أن التغيرات في المجتمعات بين العام 1979، والعام 2011، حال دون تحقيق الاستجابة والزخم المطلوبين لصعود الجماعات الإسلامية واستمراريتها.
[1] الوحدة الإسلامية.. تمثل عقيدتنا وتحطم كل أفكار الجاهلية، مقال لموقع "الوفاق أون لاين" الإيراني، منشور بتاريخ 19 أكتوبر 2021، متاح على الرابط التالي:
https://al-vefagh.ir/News/341104.html
[2] حسن البنا، الإخوان المسلمون والخلافة، ويكيبيديا الإخوان المسلمين، متاح على الرابط التالي:
https://www.ikhwanwiki.com/index.php?title=%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%88%D9%86_%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A9
[3] محمد الدابولى، الإخوان وإيران.. جذور واحدة وفروع متشابكة وعلاقات بلا مستقبل، موقع المرجع، تاريخ النشر 14 أغسطس 2018، متاح على الرابط التالي:
https://www.almarjie-paris.com/3324
[4] عبد الوهاب الأفندي، الإسلاميون والطائفية، موقع عربي 21، تاريخ النشر 28 أبريل 2015، متاح على الرابط التالي:
[5] معتز ممدوح، التأثير المتبادل بين الثورة الإيرانية والإسلام السياسي السني، موقع إضاءات، تاريخ النشر 18 فبراير 2017، متاح على الرابط التالي:
https://www.ida2at.com/mutual-influence-between-iran-revolution-and-sunni-political-islam/
[6] تحالف الإسلام السياسي: إيران والإخوان المسلمين، مقال لموقع عين أوروبية على التطرف، منشور بتاريخ 6 ديسمبر 2019، متاح على الرابط التالي:
[7] حماد السلمي، إيران والإخوان.. (قِران الشيطان)..؟!، موقع العربية، تاريخ النشر: 28 مارس 2021، https://www.alarabiya.net/saudi-today/views/2021/03/28/-%D8%A7%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86-%D9%82%D9%90%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D8%9F-
[8] التأثير المتبادل بين الثورة الإيرانية والإسلام السياسي السني، مصدر سابق.
[9] تامر بدوي وأسامة الصياد، توقعات غير متطابقة: إيران وجماعة الإخوان المسلمين غداة الانتفاضات العربية، مركز مالكوم كير كارنيجي لدراسات الشرق الأوسط، تاريخ النشر 28 مارس 2019، متاح على الرابط التالي:
https://carnegie-mec.org/2019/03/28/ar-pub-78702
[10] أيمن الظواهري، فرسان تحت راية النبي، منبر التوحيد والجهاد، بدون تاريخ، ط1 إليكترونية، ص 16.
[11] روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية، بدون تاريخ، مكتبة الشيعة الإلكترونية على الإنترنت، الطبعة الثالثة، ص 8
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: