مقدمة
تستقطب أحداث الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير 2022 معظم اهتمامات الباحثين والمحللين السياسيين، لكنّ الاهتمام بجذور هذه الحرب وتداعياتها على علاقات روسيا بالغرب يعود لما قبل فبراير بسنوات، فقد هيمنت الأزمة الأوكرانية على العناوين الرئيسية في خريف عام 2013 فترة طويلة من الزمان، كما أدى التنافس بين روسيا والغرب إلى تفاقم الانقسامات الأوكرانية.
يُركز كتاب " أوكرانيا على الحافة: روسيا والغرب والحرب الباردة الجديدة"، لمؤلفه جوردون إم هان، على الخلفية التاريخية والسببية المعقدة للأزمة، من تصاعد المظاهرات الحاشدة في ساحة الاستقلال في كييف إلى صناعة نظام ما بعد الثورة. ويلقي الكاتب الضوء على دور القوميين الأوكرانيين المتطرفين في مذبحة القناصة في فبراير 2014، والإطاحة بالرئيس حينها فيكتور يانوكوفيتش، واستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم والتورط في الحرب الأهلية في منطقة دونباس الشرقية.
صدر كتاب "جوردون إم هان" الباحث المتخصص في الإسلام السياسي والعلاقات الدولية وقضايا الإرهاب في روسيا وأوراسيا عام 2018، ويصف كتاب "هان" الأزمة الأوكرانية في سياق أوسع، ويحاول تلخيص بعض المسببات الرئيسية لهذه الأزمة، كمواقف أوكرانيا وبعض الجهات الفاعلة الأخرى (الخارجية والداخلية على حد سواء). وهان باحث أول في مركز دراسات الإرهاب والاستخبارات (مجموعة أكريبوس)، ويعيش في كاليفورنيا، وهو مؤلف لعدة كتب وعدد من المقالات البحثية عن روسيا والقوقاز،
وعلى الرغم من أن الكتاب لم يتضمن ملخصًا أو استنتاجًا نهائيًا، إلا أنه يقدم دراسة كبيرة تستند إلى الحجج والوقائع الصحيحة، حيث استخدم الكاتب معرفته التفصيلية والشاملة بالتاريخ كوصف واسع النطاق للأسباب والنتائج، وتغطية مجموعة واسعة من المشاكل الأوكرانية الحالية بوصفه دراسة موضوعية غير منحازة لا للغرب ولا لروسيا.
استهل الكاتب كتابه بالحديث عن "ثورة الكرامة"، حيث يرى أنه من الواضح بالفعل أنّ الإطاحة المدعومة من الغرب بالرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش لم تكن ثورة بالكامل، بل كانت في النهاية عبثًا، بغض النظر عن كيفية تصور المرء للأحداث المحيطة بخريف وشتاء 2013-2014 (المظاهرات والعنف في ميدان كييف)، ويرى وجود نمط من التشويه لهذه الأحداث من جانب معظم الغربيين، وخاصة الأمريكيين، ووسائل الإعلام، والأوساط الأكاديمية، والمصادر الحكومية، لذلك، قرر الكاتب أن يتحقق من المسائل بنفسه، وتوصل إلى استنتاج مختلف تماماً عما عليه الحال بالنسبة للجمهور الغربي.
أهم ما توصل له الكاتب، أن تلك المظاهرات استندت بشكل غير لائق إلى معارضة الطبقة الوسطى للفساد والاستبداد الناعم ودعم التكامل الأوروبي، وفي نهاية المطاف، تم اختطاف الثورة الديمقراطية الوليدة من قبل العناصر الفاشية الجديدة التي تسللت إلى احتجاجات الميدان، وأطاحت بالحكومة، ثم حلت محلها نخبة من الأوليغارشية (الأقلية الثرية) التي ازدهرت في ظل نظام ما بعد الاتحاد السوفيتي القديم.
ويأتي الكتاب في 688 صفحة، و10 فصول. كدراسة تصف الأزمة الأوكرانية بالكامل ضمن سياق سياسي واسع، تُركز على عدد من العوامل الرئيسية، الجيوسياسية والتاريخية والثقافية. ويستند مؤلفها على مصادر المعلومات الغربية والأوكرانية والروسية ذات الصلة (مثل تقارير وسائل الإعلام، ومصادر الإنترنت، والوثائق الرسمية للمنظمات الدولية والحكومات).
جاء الفصل الأول في الكتاب، والذي حمل عنوان "عالم يتفكك"، ليسلط الضوء على الموارد الجغرافية والحضارية، ويبدأ بفرضية أن أسباب الصراع الأوكراني تتمثل في سببين جيوسياسي وحضاري حيث الميول الجيوسياسية لم تمحوها الأنماط التاريخية، وأن الميول السياسية للجغرافيا السياسية لا تمحوها الأنماط التاريخية، وناقش الكاتب نظرية ماكيندر عن قلب الأرض (العالم)، والنظريات ذات الصلة، وتعرض لأهمية أوكرانيا وفقاً لما تؤكد عليه تلك النظريات، فضلاً عن أهميتها لدى الشعب الروسي، وكملف ضاغط على الرئيس بوتين، ويمكن إجمال الفصل في أن الكاتب قصد الإفصاح عن الأهمية الجيوسياسية والحضارية لأوكرانيا بالنسبة لروسيا.
يأتي الفصل الثاني كجانب تاريخي يتحدث فيه الكاتب عن الجذور التاريخية للانشقاق الأوكراني عن روسيا، حيث حاول إثبات أن أوكرانيا بلد ممزق تقسمه الصراعات فيما بين العنصر الحضاري الغربي في غرب أوكرانيا والعنصر الموالي لروسيا في الشرق والجنوب، كما لاحظ احتمال نشوب الصراع بين أوكرانيا وروسيا.
في الفصل الثالث تناول الكاتب التوسع الغربي من خلال خطة اللعب على توسيع الفجوة الجغرافية سياسياً وحضارياً، ورأى أن أهم أسباب الأزمة الروسية الغربية والأوكرانية هو توسع منظمة حلف شمال الأطلسي دون ضم روسيا، فمنذ بدايتها، كانت روسيا في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي تشكل تهديداً محتملاً لجيرانها والغرب، طالما لم تندمج في الغرب. ويرجع السبب الرئيس في الأزمة إلى خرق أوروبا لوعدها بعدم ضم أي دول أخرى لحلف الناتو بعد انهيار حائط برلين وعودة ألمانيا موحدة للمظلة الأوربية والحلف.
عرض الفصل الرابع، تعزيز الديمقراطية من خلال الاستخدام المزدوج للثورات الملونة، فرأى أن توسعة حلف شمال الأطلسي إلى الشرق لم يكن مصحوباً في كثير من الأحيان بتوسع الاتحاد الأوروبي فحسب، بل بأنشطة مرافقة لتعزيز الديمقراطية الغربية والتي أسفرت عن تغييرات في العديد من الأنظمة، أو كما بات يطلق عليها "الثورات الملونة".
إن تعزيز الديمقراطية عند "هان" يشكل تكنولوجيا سياسية غامضة ومجازفة بل وحتى استفزازية على حد وصفه، فوفقاً له، بمجرد النجاح ببدء التحولات الديمقراطية تفقد الدول المستهدفة السيطرة والقدرة على تشكيل النمط الذي ستصبح عليه المؤسسات والجمعيات السياسية والمجتمعات المدنية في الدول المستهدفة.
انتقل الكاتب في الفصل الخامس للحديث عن أزمة الدولة في أوكرانيا، وقد وصف الديمغرافية والخصائص السكانية "بالتكتونيك"، نظراً لطريقة تشكيل تلك الصفائح واستجابتها للضغوط داخلها بالتغيرات في شكلها وطبيعة حركتها، ومرد هذا التشبيه أن "هان" يحاول إثبات أن دونباس من خلال حق تقرير المصير تسعى للاستقلال عن أوكرانيا، فحتى في ظل الاتحاد السوفييتي المُتعثر في عصر البيريسترويكا، رفض إقليم دونباس القومية الأوكرانية.
جاء الفصل السادس ليحذر من العاصفة المكتملة في أوكرانيا، حيث يرى الصراع الجيوسياسي المكثف بين روسيا والغرب يزيد من الانقسام في أوكرانيا، وعلى الرغم من "إعادة ضبط" العلاقات الروسية الأمريكية، وفقاً للمبدأ الخاطئ القائل: أن المسائل الصعبة في العلاقات ينبغي أن توضع جانباً، وأن تُهمل فعلياً، وأنً التركيز يقتصر على "الأمور الهامشية المعلقة"، فقد أدى ذلك إلى تجاهل القضية الجوهرية المتمثلة في اعتداء حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي على حدود روسيا.
وتحت عنوان "الميدان" في إشارة من الكاتب للثورة، يتألف الفصل السابع من تحليل لعدة "نقاط تصعيد" - نقاط تحول قسرية وعنيفة - في صنع الأزمة الأوكرانية، حيث خلص أنّ الذي أشعل الثورة في أوكرانيا كان الغرب، فعشية وبعد سقوط فيكتور يانوكوفيتش من السلطة، اشتد الصراع المزدوج على أوكرانيا المنقسمة على الصعيدين المحلي والدولي.
فعلى المستوى الوطني، كان من المؤكد أن الوضع التحولي "الثوري" أو النظام الجديد، قد نشأ في ساحات وميادين كييف والمدن الواقعة غربي أوكرانيا، والواقع أن الخصائص الطبقية والعرقية والأيديولوجية لسكان الغرب الأوكراني نشأت وتعززت بالوسائل السياسية والتكنولوجية عند الدول الغربية، وخاصة في الإعلان المزدوج (الانتقالية أو الثورة) وتعزيز الديمقراطية وفقاً لما خلص له الكاتب.
وناقش الكاتب في الفصل الثامن تحول الوضع من "ثورة" إلى "حرب أهلية" في أوكرانيا، ولم يغفل الحديث عن محاولة بوتين التصعيد تجاه الغرب في شبه جزيرة القرم، ويرى أنه مثلما أثار الدور الرئيسي للغرب في صنع الأزمة الأصلية وقراره انتهاك اتفاقية 21 فبراير مع موسكو، فإن بوتين مُلام كذلك على رد فعله في القرم.
وخُصص الفصل التاسع للحديث عن أزمة دونباس، حيث يرى الكاتب أن روسيا ومحاربو دونباس أصروا على أن الحرب لم تكن خيارهما بل كانت خيار كييف، وأنهم حسب رأيهم مناضلون من أجل الحرية، أو على الأقل مناضلون من أجل الاستقلال الذاتي الإقليمي وضد تهديد النزعة الجديدة النابعة من المتطرفين داخل ثورة الميدان، ومن هذا المنطلق، فإنّ جمهورية دونباس ولوهانسك هي جمهورية ذات جذور شعبية ومشروعة، وأي مساعدة رسمية وغير رسمية من روسيا لم تكن حاسمة أيضاً بالنسبة لبدء الحرب أو استمرارها، وتشير الأدلة إلى أن وجهة النظر الروسية حول دونباس أقرب إلى الحقيقة، والأهم من ذلك أن التدخل العسكري الروسي حدث بوضوح بعد أن بدأت الحرب الأهلية على يد كييف.
جاء الفصل الأخير، الذي يمكن وصفه بالخاتمة وعرض النتائج التي توصل إليها الكاتب، ومن خلال الإجابة على تساؤل، ما هي مصادر الأزمة والأطراف المسؤولة عن "ثورة الكرامة" العنيفة؟ توصل "هان" إلى:
1. أن الجغرافيا السياسية الماكيندرية والحضارة الهنتينغتونية والأوراسية أنشأت هيكلاً للصراع المحتمل بين روسيا والغرب على المنطقة التي تفصل بينهما، ولقد تم التعبير عن هذه العوامل من قِبَل منظمة حلف شمال الأطلسي وأهدافها، والمجتمع عبر الأطلسي.
2. قررت منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي إضفاء الطابع المؤسسي على المحيط العالمي لماكيندر وهنتنغتون والأوراسيانيين "غرباً" وتوسيع نطاقه في إنشاء نظام لما بعد الحرب الباردة.
3. الغرب - الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين - وروسيا خلقا توتراً جيوسياسياً من شأنه أن يمزق أوكرانيا المنقسمة بالفعل.
4. وكما أن أسباب الأزمة الأوكرانية كانت محلية ودولية على حد سواء، فإن عواقبها جاءت على الصعيد المحلي، فلم تؤد الأزمة والثورة والحرب إلى الوحدة، بل إلى انقسام الدولة والمجتمع.
وختاماً؛ قدمت الدراسة تحليل شامل للأزمة الأوكرانية من كافة الجوانب، وحملت في طياتها أيضاً أسباب الحرب الدائرة رحاها في عالمنا اليوم، فلقد تنبأ الكاتب أن يصل الأمر في نهاية المطاف إلى أبعد مما نعيشه اليوم.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: